الإثنين, مارس 10, 2025
Google search engine
الرئيسيةالشامل المغربيتكثيف اللغة واختصار المعاني في شذرات "سقوط الألوان" لياسين أرحال

تكثيف اللغة واختصار المعاني في شذرات “سقوط الألوان” لياسين أرحال



توطئة:

الشذرات جنسٌ أدبيٌّ حديثٌ، أملته ظروفُ ومعطياتُ العصرِ الذي يتّسمُ بالعجلةِ والسرعةِ، وهي تمتازُ بعدّةِ خصائص، نذكرُ منها على سبيلِ المثال:

– الاختصارُ والتكثيفُ: حيثُ يمرّر الكاتبُ فكرتَه في أسطرٍ معدودات وبأقلِّ الكلمات، قد لا تتجاوز سطراً.
– الرمزيةُ: تحتوي الشذرات في أغلب الأحيان على رموز أو إشارات تُشير إلى معانٍ غير مباشرة، لذلك وجب قراءة ما وراء السُّطور وعدم الوقوف على الظاهر.
– الإيقاعُ والتركيزُ: بما أن الشذرة قصيرة، فإنها تعتمد على إيقاع لغوي قوي، وعلى التركيز في التعبير عن الفكرة أو الشعور بوضوح تام.
ولعلَّ المجموعةُ الشذرية “سقوط الألوان” تنهضُ دليلًا على ما فذلكنا له، فأين يتجلى ذلك؟ هذا ما سنحاول إبرازه في هذه القراءة المتواضعة.

تعدّ مجموعة “سقوط الألوان” لياسين أرحال مجموعة شذرية مكثفة، تندرج ضمن غرض الغزل العفيف، وتتميز بصورها الشعرية التي تزخر بالجمال وتستحق التأمل. يعتمد الكاتب في هذه الشذرات على أسلوب مختصر يعبر عن مشاعر الحب والوجد في قالب مختزل، مما يجعل كل كلمة تحمل دلالات عميقة، ويمثل النص رحلة من الجمال العاطفي النقي.

يقول الكاتبُ: “وجهكِ مالٌ بلغ النصابَ وحال عليه الحولُ وقلبي أكثر مستحقٍ للزكاةِ”.(ص04)
هذه الشذرةُ تتضمَّنُ تشبيهًا مؤكَّدًا، حيثُ حُذفت أداةُ التشبيهِ. فقد شبّه الكاتبُ وجهَ “المحبوبةِ” بالمالِ الذي بلغ النصابَ، وبالتالي يجبُ على صاحبِه إخراجَ الزكاةِ لتطهيره. وكذلك، قلبُ الكاتبِ يحتاجُ إلى تطهيرٍ، ولا يقدر على ذلك إلا “المحبوبة”.

ثم يقول في شذرة أخرى: “فؤادي أرضٌ محشوةٌ بالكلماتِ كلّما لمستهُ يداكِ الشمعيتان تنفجر منه قصيدةٌ”.(ص07)
في هذه الشذرة، يصوِّرُ الكاتبُ كيف أن “محبوبته” تعدّ مصدرًا للإلهام، حيثُ شبّه فؤادَه بالأرضِ. فإذا كانت الأرضُ تنفجر منها -مثلًا- المياهُ، فإن قلبَ الكاتبِ تنفجر منه القصائدُ بمجردِ أن تلمسه “المحبوبة”. وليس اللّمسُ هنا محصورًا في المادي أو الملموس، بل قد يكون محسوسًا أيضًا، مثل النظر إلى وجهِ “المحبوبةِ”.

أما في شذرة “فاشلةٌ هي محاولةُ نسيانكِ تمامًا كمحاولة التصفيق بيدٍ واحدةٍ”(ص14)، فيشبّه الكاتبُ محاولةَ نسيانِ “محبوبته” بمحاولة التصفيق بيدٍ واحدة، مبيّنًا الاستحالة في كلا الفعلين. فكما أن التصفيق بيدٍ واحدة مستحيل، كذلك يستحيل نسيان “المحبوبة”.

فيما يتعلق بشذرة “ولّيتُ وجهي شطرَ نفسي مرغما! وأنا الذي كنتُ أحبُّكِ أكثر منها”(ص26)، تنتصرُ كرامةُ الكاتبِ على حبِّ “المحبوبة”، الذي يبدو أنه حبٌّ من طرفٍ واحد. فما كان ليولي الكاتبُ وجهه شطرَ نفسِه لو كان حبًّا متبادلًا.
وفيما يخصُّ شذرة “أحتاجُ رؤيتَكِ مرةً ثانيةً أريدُ استعادَتي” (ص32)، يُعبِّر الكاتبُ عن كيف أنّ “محبوبته” سلبته عقلَهُ، ولم يعد يدركُ قيمةَ وجودِه إلا عند اللقاءِ بها. ففي غيابِها، يكون موجودًا من حيث الجسد فقط، أما عقلًا فلا، فقد أخذته “المحبوبةُ” معها، ولا سبيل لاستعادتِه إلا بلقائِها مجددًا.
هذه الشذرةُ تذكِّرنا بقصةِ “قيس مجنون ليلى”، إذ مرَّ من أمام جماعة يصلُّون، ولم يصلِّ معهم. فلما كان عائداً، وجدهم قد انتهوا من الصلاة، ومازحوه قائلين له: “مررتَ من أمامِنا، ولم تأتِ للصلاةِ معنا، ألهذه الدرجة سلبتكَ ليلى عقلَكَ؟” فردَّ عليهم: “واللهِ لو كنتم تحبُّونَ اللهَ كما أحبُّ ليلى لما رأيتموني!”

علاوة على ذلك، في شذرة “كفرحة الأم حين يزحف رضيعها نحوها أستقبل حضوركِ” (ص46)، يُشبِّه الكاتبُ الفرحَ الذي يشعرُ به عند لقاءِ محبوبتِه بفرحةِ الأمِّ وهي ترى طفلَها يزحفُ نحوَها. إنها فرحةٌ لا يمكنُ وصفُها بالكلماتِ، بل تُعاش فقط. ولعلَّ ما يجمعُ بين الطفلِ والمحبوبةِ -في هذه الشذرة- هو البراءةُ والعفويةُ.

ومن جهة أخرى، بالنسبة لشذرة “شوارعُ ذاكرتِي مليئةٌ بالزُّجاجِ وذكرياتُكِ تركضُ فيها حافيةً”(ص49)، يصوِّرُ الكاتبُ الجروحَ التي تُسبِّبُها له الذكريات التي قضاها مع محبوبتِه، حيث يعبّر عن الألم الناتجِ عن تلك الذكرياتِ، كما لو أنّ الجروحَ تعصفُ به مع مرورِ الزمن. هذه الذكريات لا تتوقّف أبدًا، وهو ما يدل عليه قول الكاتب: “وذكرياتكِ تركضُ فيها حافية”، وهي عبارة تتضمَّنُ صورةً شعريةً، ألا وهي المجاز.

أما شذرة “أضعُ خدِّي على صدركِ كمن يبحثُ عن الشمسِ في ليلةِ شتاءٍ باردةٍ” (51)، يعبّر الكاتب عن كيف أن محبوبته تُعدُّ مصدرًا للدفء والأمان. لقد شبّه صدرها بالشّمس بجامعِ الدفء، فإذا كان الناسُ حينما يشعرون بالبرد يبحثون عن الشّمسِ من أجل التدفئة، فإنه هو يبحثُ عن صدرِ محبوبتِه، الذي يغنيه عن ألف شمسٍ وشمس!

وفي شذرة “شاركتكِ عبورَ الشارعِ ومن يومِها وأنا أبحثُ عن قلبي” (ص61)، يصفُ الكاتبُ آثار الحبِّ من أولِّ نظرةٍ، حيثُ سرقت المحبوبةُ قلبَه وجعلته في حالةٍ من الضياعِ المستمرِّ.

ثم في شذرة “رؤيتكِ أشبه بقطعةِ حديدٍ على النّار لا تملكُ سوى أن تنصهرَ”(ص63)، يشبِّهُ الكاتبُ رؤيتَه لمحبوبتِه بقطعةِ حديدٍ على النّارِ في لحظةِ الانصهارِ. فالكاتبُ، رغم قوته وصموده، يُهزم فجأةً عند رؤيته لعيون محبوبته. هذه الشذرةُ تذكّرنا بقول الشاعر: “أعود منتصراً بكلِّ معاركي وأمام عينيها البريئة أُهزم”.

وأخيرًا، في الشذرة “أتبعكِ دون خطى.. أينما تكونين أكون أنا ظلُّكِ!”(ص67)، يصفُ الكاتبُ كيف أنّ وجودَه مرتبطٌ بوجودِ “محبوبته”، فهو كالظلِّ – كما عبّر عن نفسه – الذي لا يفارقها. كما أن الظلَّ ملازم للإنسان ولا يفارقه، كذلك الكاتبُ لا يستطيع مفارقةَ “محبوبتِه”، حتى وإن ابتعد عنها جسديًا، فإنّ ذاكرتَه لا تفارقها أبدًا.

على سبيل الختم: لقد نجح الكاتبُ ياسين أرحال في التعبيرِ عن أحاسيسه وإيصالها للقارئ من خلال أسطرٍ معدودةٍ، حبلى بالصُّورِ الشعريةِ المتنوعةِ. هذه الصور أضفت جماليةً فريدةً على النصوص، وعملت على تكثيفِ المعاني والدلالاتِ، جعل الكتابَ يستحقُّ عن جدارةٍ أن يُصنَّف ضمنَ جنسِ الشذراتِ. وللإشارة فقد تم تحليلُ بعضِ النماذجِ فقط، فهناك شذراتٌ أخرى، وهناك الكثيرُ مما يمكنُ قوله حولها هي الأخرى.

 



Source link

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات