يرى الحسن بوقنطار أن هناك حالة من التشاؤم حول قدرة الأمم المتحدة على القيام بفعالية ونجاعة بمهمتيها الأساسيتين اللتين حددهما ميثاق سان فرانسيسكو، هما المحافظة على السلم والأمن الدوليين وإنماء التعاون بين الدول والشعوب، بالرغم من الشعار الطموح الذي تبنته الدورة التاسعة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يتمحور حول تعزيز السلام والتنمية المستدامة وعدم ترك أي أحد متخلفًا عن الركب.
وأضاف بوقنطار، في مقال معنون بـ”الأمم المتحدة والتحديات الراهنة”، أن العالم اليوم يواجه حالة من الانقسام الحاد، وزيادة في التحديات والانقسامات بين القوى الكبرى، وزيادة في الصراعات المسلحة في مناطق متعددة، أبرزها الحرب في أوكرانيا واغتيال إسماعيل هنية وحسن نصر الله وعدد من قادة حزبه، مشيرا إلى أن ذلك إن أشر على التفوق الاستخباراتي والعسكري الإسرائيلي فإنه يرسخ منطق القوة في مقابل القانون.
وأبرز المتحدث ذاته أن مواءمة النظام المؤسساتي الدولي مع موازين القوى الراهنة تبقى ضرورة ملحة لمواجهة الانقسامات والصراعات المتزايدة، وخلق توازن أكثر إنصافا عبر إعادة هيكلة مجلس الأمن ليعكس الواقع الدولي الحالي من خلال توسيع عضويته وإلغاء حق “الفيتو” أو تعديله.
وهذا نص المقال
بالرغم من أن شعار الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة يقوم على عدم ترك أي أحد متخلفا عن الركب، والعمل من أجل تعزيز السلام والتنمية المستدامة والكرامة الأساسية للأجيال الحالية والمستقبلية، فإن هناك إجمالا حالة من التشاؤم حول قدرة الأمم المتحدة على القيام بفعالية ونجاعة بمهمتيها الأساسيتين اللتين حددهما ميثاق سان فرانسيسكو، هما المحافظة على السلم والأمن الدوليين، وإنماء التعاون بين الدول والشعوب. قد يعود ذلك إلى الانقسامات الجيوسياسية التي تعمقت، وإلى تحديات جديدة قد تزيد الهوة بين دول العالم ما لم يتم التصدي لها بشكل مشترك، وبإرادة جماعية تضمن مشاركة الجميع في حكامتها، مما يتطلب أكثر من أي وقت مضى مباشرة إصلاح المنظومة المؤسساتية الدولية التي لم تعد متلائمة مع الواقع الدولي الراهن لا يمكن مواجهتها ما لم يتم بشكل جدي إصلاح هذه المنظومة التي لم تعد متلائمة مع الواقع الدولي الراهن.
لذلك تسعى هذه المساهمة إلى إبراز بعض اختلالات وتحديات النظام الحالي قبل التطرق إلى إشكالية الحكامة الدولية، وأساسا إصلاح المنظومة الأممية.
أولا : عالم منقسم مليء بالتحديات
في الوقت الذي ساد الاعتقاد بأن نهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وتعمق العولمة ستفضيان إلى نظام عالمي جديد، قوامه نبذ استعمال العنف، خاصة في العلاقات بين الدول، وإذكاء التنافس الاقتصادي والانتقال الحر للأشخاص والبضائع من أجل تنمية شاملة للإنسانية، فإن هذا الاعتقاد سرعان ما بدأ يتلاشى ويتبخر تدريجيا. كانت أحداث 11 سبتمبر لحظة مفصلية في إدخال النظام الدولي في حالة من الفوضى. وكان شعار الحرب ضد الإرهاب الذي رفعه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في حد ذاته مؤشرا على التخلي عن الطرق السلمية في تدبير العلاقات، وتفضيل القوة في مواجهة الخصوم، ومن بينهم ما سمي بالدول المارقة. أكثر من ذلك، فإن التدخل العسكري بواسطة الحلف الأطلسي في كوسوفو، والحرب على العراق التي تمت خارج الشرعية الدولية، أي بدون موافقة مجلس الأمن، أبرزا بشكل واضح أن الدول التي من المفترض فيها، كأعضاء دائمين في مجلس الأمن، أن تحترم الشرعية الدولية، تقوم بخرقها بشكل واضح. أكثر من ذلك، هذا التدخل العسكري، الذي كان يستهدف بناء نظام شرق أوسطي جديد قائم على الديموقراطية والتعاون بين مكوناته، أخفق بشكل واضح في هذا الهدف، وزاد من حالة الفوضى، وأسهم في إضعاف القوى المعتدلة وبروز قوى متطرفة ذات اصول دينية، كما هو الأمر بالنسبة لما سمي فيما بعد بحركة “داعش”.
في نفس السياق، فإن تراجع الولايات المتحدة، وتذبذب سياستها الخارجية سيساعدان على نهوض قوى مضادة تقودها روسيا، التي دشنت مع بوتين توجها جديدا يسعى إلى إعادة استرجاع الهيبة الروسية، ومحاصرة النفوذ الأمريكي، سواء في المحيط القريب أو حتى في الفضاء الشرق أوسطي، كما هو الأمر بالنسبة للدور الحاسم الذي قامت به القوات الروسية لمنع سقوط نظام بشار الأسد، وتقويض أركان الحركات المناهضة له. وهو ما مكنها من إعادة التموقع في النظام الدولي، مستفيدة من تناقضات الخطاب والسلوك الغربي إزاء مجموعة من القضايا، وكذلك تنامي قوى جديدة، أصبح يطلق عليها بشكل ملتبس الجنوب الشامل Le Sud Global، وهي تلك القوى التي تخترقها تناقضات متعددة، لكن يوحدها شيء أساسي هو ضرورة إعادة بناء قواعد اللعب والحكامة الدولية على ضوء موازين القوى الجديدة.
من الواضح أن هذه التطورات التي عرفها النظام الدولي، والتي لا يمكن حصرها في هذه المقالة، أفضت إلى عدة حقائق، من أبرزها أن العلاقات الدولية باتت أكثر من أي وقت مضى خاضعة للمصالح الوطنية، وهي في الواقع معاينة ليست جديدة، بل إن المدرسة الواقعية أكدت على هذا المعطى، لكن ما هو جديد أن التقاطب الحاد وتضارب المصالح جعلا الدول تتبنى سياسات متضاربة لتبرير مصالحها. والمعطى الثاني يكمن في تنامي استعمال القوة في العلاقات بين الدول. وهو أمر يعيد مقولة ريمون أرون ARON . R، الذي اعتبر أن كل دولة تملك شرعية ومشروعية اللجوء إلى القوة، ولا تعدم المبررات لتبرير سلوكها، خاصة إذا كانت قوة عظمى. وهو الأمر الذي مارسته الولايات المتحدة في عدوانها على العراق، وهو نفس المنطق الذي تحاول روسيا استعماله لتبرير عدوانها على أو كرانيا. في هذا السياق، فإن الحرب الروسية الأوكرانية أعادت من جديد التذكير بأن الحرب بين الدولتين لم تنته نهائيا، كما ساد الاعتقاد، بل إنه في قلب أوربا تجري حرب بين دولتين، وهي بذلك تنضاف إلى ما وقع من حرب في البلقان في بداية تسعينيات القرن الماضي، والتي كانت تؤطر كنزاع مسلح متعدد الأشكال والأطراف. وفي نفس السياق فهي تعيد من جديد النقاش حول احتمالية استعمال أسلحة الدمار الشامل إذا تم تجاوز الحدود، كما أعلن عن ذلك الرئيس بوتين، مما يحيى المخاوف من تطورات محتملة غير متحكم فيها. فضلا عن ذلك، أبرزت بشكل واضح التقاطب الموجود في النظام الدولي. فإذا كانت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تساند أوكرانيا بوصفها تعرضت لعدوان، فإن ما يعرف بدول الجنوب الشامل بقي موقفها في غالب الأحيان مترددا، يسعى إلى إقرار نوع من التوازن بين الطرفين، وبين اعتبارات الشرعية الدولية، ومتطلبات المصلحة الوطنية والجيوسياسية، مكرسا بذلك هذا الشرخ العميق بين الغرب والآخرين. والمعطى الثالث يكمن في كون هذه الممارسات اللاشرعية التي تكون الدول الدائمة العضوية طرفا فيها تفضي أوتوماتيكيا إلى شل دور مجلس الأمن الذي يتولى مهمة حفظ السلم والأمن الدوليين، ومن ثم يثار التساؤل حول دور المنظمة الأممية في تحمل مسؤوليتها في هذا المجال الحيوي بالنسبة للإنسانية.
إن الواقع الدولي الراهن، بكل تعقيداته وتطوراته المتباينة في كثير من الأحيان، يجعل الإنسانية اليوم أمام عدة تحديات، أبرز أهمها الأمين العام للأمم المتحدة في خطابه بمناسبة مؤتمر القمة المعني بالمستقبل، الذي انعقد في الأيام الماضية بنيويورك. التحدي الأول يكمن في كيفية محاربة الإفلات من العقاب. لقد عادت هذه المسالة بقوة في سياق الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بقيادة نتنياهو: ما يقع في غزة من مآس منذ سنة تقريبا، والاغتيالات المنتظمة والمستهدفة لخصومها حتى في أراضي دول ذات سيادة، كما هو الأمر بالنسبة لإسماعيل هنية في إيران، وعدد من قيادات حزب الله في لبنان، آخرهم لحد الآن أمينه العام السيد حسن نصر الله. وإذا كانت هذه الممارسات تعكس التفوق العسكري والتكنولوجي لإسرائيل، ورغبتها في إسكات كل صوت معارض لعدوانها، فإنها ترسخ منطق القوة في مقابل القانون، وبالتالي تطرح بحدة الموقف من القانون الدولي الإنساني. بالرغم من قرار محكمة العدل الدولية، الذي صنف الأعمال الإسرائيلية ضد غزة بالحاملة لمخاطر الإبادة، وبالرغم من قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي بمتابعة الوزير الأول الإسرائيلي ووزير دفاعه، فكما كان متوقعا، فإن الولايات المتحدة، في موقف يعكس بشكل واضح سياسة الكيل بالمكيالين، نددت بهذا الموقف، في الوقت الذي كانت رحبت بقرار نفس المحكمة فيما يتعلق بمحاكمة الرئيس الروسي بوتين بخصوص التنقيل القسري للأطفال في أوكرانيا. أكثر من ذلك، فإن عددا من الدول الغربية بدل أن تمارس الضغط الضروري لمنع نتنياهو من الاستمرار في جرائمه، سواء في غزة أو في لبنان، لا تتردد في دعمه، حيث إن الولايات المتحدة ساهمت منذ أحداث 7 أكتوبر2023 في دعم إسرائيل بأكثر من 14 مليار دولار، علما أن إسرائيل ليست دولة فقيرة. إن هذا الشعور بالكيل بالمكيالين لا يمكن إلا أن يغذي الاتجاهات المتطرفة المناهضة للولايات المتحدة والغرب إجمالا، ويدفع الآخرين إلى الاستهتار بالقانون الدولي الإنساني، اعتقادا منهم أن القوة هي التي باتت شائعة وسائدة وليس القانون الدولي. ومن المؤكد أن كل ما يقع اليوم، سواء في الشرق الأوسط أو السودان أو أوربا، مؤشرات تضعف سلطة القانون الدولي، وتطرح إشكالات أخلاقية ووجودية حول قيمة الإنسان ومكانته.
أما التحدي الثاني فيتمثل في مواجهة حالة اللامساواة التي تسم النظام الدولي. وهي أيضا ليست حالة جديدة، لكنها تزداد اتساعا. في الوقت الذي كان الاعتقاد سائدا بأن العولمة بما حررته من طاقات، وما فتحته من آفاق، ستسهم في ردم الهوة بين مختلف الشرائح، وتزيد من اللحمة المجتمعية، إلا أن الواقع يبين أن حدة التفاوت تزداد، وأن كثيرا من البرامج لم تحقق المراد منها، وأن الأغنياء عبر العالم يزيدون غنى، في الوقت الذي يزداد عدد الدول التي باتت تعرف بالدول الفاشلة. بل أكثر من ذلك، يعرف مؤشر الديموقراطية عبر العالم تراجعا لحساب الأنظمة التسلطية. أضف إلى ذلك أن الانتخابات التي تجرى في أغلب الدول الأوربية تفرز قوى يمينية متطرفة باتت تمارس السلطة مباشرة، أو في إطار تحالف، أو تستعد لممارستها، وهي كلها تجمع على برنامج قائم على إعطاء الأولية للأفضلية الوطنية، ومناهضة الأجنبي، وتمجيد السيادة الوطنية في مواجهة التكتلات التي تعتقد أنها لا تخدم مصالحها.
إن هذه الأفكار المتطرفة والشعبوية التي تجد آذانا صاغية في كثير من الدول تسائل النظام الدولي حول فرص العمل المشترك، والتضامن من أجل التخفيف من حدة التحدي الثالث، ألا هو تحدي التغيرات المناخية والثورة التكنولوجية المتسارعة، التي بات الذكاء الاصطناعي أحد أبرز محركاتها ومحدديها مستقبلا. على هذا المستوى نلاحظ أيضا حالة اللاتكافؤ، فالدول الأقل تلويثا بسبب ضعفها الصناعي هي التي تعاني أكثر من التغيرات المناخية، كما نلاحظ ذلك بشكل بارز في عدد من الدول الإفريقية. فهي تريد الإقلاع، لكنها ما زالت تصطدم بصعوبات ناجمة عن استمرار حالة اللااستقرار وشح الإمكانيات وتنامي المطالب المجتمعية المترتبة عن مسلسلات الانتقال المختلفة، فضلا عن تواضع تنفيذ الوعود التي أطلقتها القمم المتلاحقة المتعلقة بالبيئة والتغيرات المناخية.
من المؤكد أن الثورة الرقمية، بما أفرزته من ثورة في الذكاء الاصطناعي، ساهمت في تغيير العلاقة بين الكائن ومحيطه في جميع المجالات. ويقدم مجال الدفاع أدلة بارزة على دور التكنولوجيات المتطورة في إدارة النزاعات. لكن، كما هو الأمر بالنسبة لكافة الثورات المعرفية التي عرفتها الإنسانية، فإن التخوف المشروع يكمن في معرفة ما إذا كانت الاستفادة ستكون عامة، أم ستزيد من الهوة بين الدول المتقدمة والضعيفة، وكذا بين القادرين على الارتقاء إليها وأولئك الذين لا يملكون الوسائل الضرورية للاستفادة من خدماتها.
إن معاينة هذه التحديات وغيرها من التطورات المتسارعة تبقى قاصرة ما لم تتم مواكبتها بإجراءات تجعلها أكثر تعبيرا عن الانتظارات والهواجس الإنسانية برمتها، ومن ثم لا مندوحة من مباشرة إصلاح النظام المؤسساتي الدولي.
ثانيا: الإصلاح، لكن أي إصلاح؟
منذ نهاية الثمانينيات تبلورت قناعة دولية مضمنها أن النظام المؤسساتي الأممي، الذي صيغ في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يعد ملائما مع التغيرات والتوازنات الدولية الجديدة، ومن ثم لا بد من إصلاحات جوهرية فيما يتعلق بحكامة النظام المؤسساتي الدولي. وللتذكير فقط، فإن الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الراحل، بطرس غالي، كان قد قدم إلى قمة مجلس الأمن، التي انعقدت في يناير 1992، مجموعة من المقترحات ضمن ما سمي بأجندة من أجل السلام Agenda pour la paix . لكن هذه المعاينة المشتركة لم تتحول إلى أفعال وممارسات جديدة. فقد سعت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، ضمن منظورها الملتبس للأمم المتحدة، إلى محاولة إضعافها من خلال خلق هيئات تساهم في ضبط النظام الدولي، كما هو الأمر بالنسبة لمجموعة السبع G7، التي تحولت إلى مجموعة العشرين، أو المنظمة العالمية للتجارة، التي كرست الاتجاه الليبرالي للاقتصاد العالمي. لكن ينبغي الإقرار بأن هذا التوجه الرامي إلى تهميش المنظمة العالمية لم يبق بدون مقاومة، فقد ووجه باتجاه آخر يرمي إلى ضبط النظام الدولي من خلال مؤتمرات عالمية كبرى اهتمت بقضايا إنسانية كبرى، كما هو الأمر بالنسبة للتنمية المستدامة، وحقوق الإنسان، والبيئة، والمرأة، والحكامة العالمية… فضلا عن إحداث مؤسسات دولية لضبط بعض القطاعات.
لذلك يمكن القول إن النقاش حول إصلاح المنظومة المؤسساتية العالمية لم يهدأ، ومن المؤكد أن منظمة الأمم المتحدة تبقى في جوهره، اعتبارا لدورها، لا سيما فيما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين، اللذين كما لاحظنا يواجهان تهديدات متنوعة وانتهاكات جسيمة، كما هو واضح اليوم من خلال النزاعات المسلحة التي تدور في مناطق مختلفة من العالم، لعل أبرزها ما يقع في الشرق الأوسط بفعل الممارسات الإسرائيلية الموغلة في العنف والمناهضة لميثاق الأمم المتحدة.
إذا تركنا جانبا القضايا الوجودية التي تطرحها العلاقات الدولية، والتي تسائل مستقبل الإنسانية نفسها، يمكن أن نسجل أن النقاش عاد ليروج حول إصلاح الأمم المتحدة. وهناك مقترحات متعددة، لا سيما فيما يتعلق بتركيبة مجلس الأمن الذي يظل في مواجهة كافة التحديات بوصفها تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين. وما بين المطالبين بإلغاء حق “الفيتو” الممنوح لخمس دول اعتبارا لكونه غير عادل ويعكس توجها أوليغارشيا، وأولئك الذين يطالبون بضرورة توسيع تركيبة المجلس اعتبارا لارتفاع عدد أعضاء المنظمة، يطرح النقاش حول الصيغة الجديدة الممكنة والناجعة للمجلس، وتركيبته والمركز القانوني لمختلف مكوناته على ضوء موازين القوى القائمة.
التوجه السائد اليوم الذي تشاطره أغلب الدول يكمن في توسيع عدد أعضاء المجلس دون الاتفاق على هذا العدد. على مستوى آخر، هناك توجه يدافع عن خلق فئة جديدة داخل المجلس، تتمتع بالعضوية الدائمة دون حق “الفيتو”. بمعنى آخر قد نكون أمام ثلاث فئات داخل المجلس: الدول الدائمة العضوية مع حق “الفيتو”، وهي الدول الخمس التي لن تتخلى عن هذا الامتياز، والدول الدائمة بدون “فيتو”. يمكن في هذ السياق التفكير في اليابان بصفتها من كبار الممولين، وألمانيا والهند والبرازيل، ودولة أو دولتين من إفريقيا لتمثيل أكثر من مليار نسمة، وهي الكتلة التي تمثلها القارة الإفريقية، والتي لا تستفيد من أي تمثيلية دائمة في هذا المجلس. أما الفئة الثالثة فتضم الدول غير الأعضاء المنتخبين، وقد يرتفع عددها من 10 دول إلى 14 أو 15 عضوا.
لكن مهما كان المقترح المتعلق بإعادة صياغة تركيبة مجلس الأمن، فهو يواجه، على الأقل، ثلاثة حواجز ظاهرة: الحاجز الأول، وهو قانوني، حيث إنه لا يمكن تعديل ميثاق الأمم المتحدة إلا بأغلبية ثلثي الأعضاء، من بينهم الدول الدائمة العضوية. أما الحاجز الثاني فيتمثل في الاتفاق على معايير موضوعية تسمح بانتقاء الدول المؤهلة للارتقاء إلى مركز الدول الدائمة العضوية. وأخيرا يتمثل الحاجز الثالث في ضرورة إفراز تسويات بين القارات لضمان تمثيلها بشكل منصف.
لكن حتى في حال تحقق هذا الإصلاح، فإن السؤال يبقى معلقا حول مدى نجاعته، من جهة في التخفيف من حدة “الفيتو” الذي تمارسه الدول الخمس، خاصة عندما تكون طرفا مباشرا في نزاع ما، ومن جهة أخرى المساهمة الفعلية في تسوية النزاعات، خاصة منها المسلحة من خلال الانخراط في الإجراءات الردعية التي يتخذها المجلس، طالما أننا نعرف أنه لا يكفي امتلاك القوة، بل لا بد من التوفر على إمكانيات استعمالها ونشرها في مواجهة الآخرين.
على مستوى آخر، فإن إصلاح الأمم المتحدة لا ينبغي أن يقتصر على مجلس الأمن، مهما بلغت أهميته، بل من المفيد أن يمتد إلى باقي الأجهزة، خاصة الجمعية العامة، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، من جهة، لخلق توازن مؤسساتي جديد، ومن جهة أخرى لمنحها صلاحيات أوسع قد تمكنها من الحلول محل مجلس الأمن في حال عجزه عن الاضطلاع باختصاصاته بسبب استعمال حق “الفيتو” من قبل أحد الأطراف، وكذا المساهمة في بلورة حلول مبتكرة تأخذ بعين الاعتبار التحولات والتحديات الراهنة، وتمكن من إعطاء دور أكبر للنساء في الحكامة الدولية تجسيدا لمطلب المناصفة، الذي ينبغي أن يتبلور على كافة مؤسسات الحكامة الدولية، خاصة المتعلقة بالمجالات النقدية والمالية والاقتصادية بصفة عامة، التي تظل بدورها في حاجة إلى المراجعة.
إن مواءمة النظام المؤسساتي الدولي مع موازين القوى الراهنة تبقى ضرورة ملحة لمواجهة الانقسامات والصراعات المتزايدة، وخلق توازن أكثر إنصافا، لكن لا يعني ذلك أنه كاف لوقف هذا المد الجنوني الذي تغذيه النزعات المتطرفة والهيمنية، المنغلقة على مصالحها الخاصة، على حساب متطلبات العيش الإنساني المشترك.