لقد أصبح الفضاء العام في الطور الراهن يساهم في بناء مجال قابل لتأثير في العلاقة بين السلطة والمجتمع، ويتحقق في روابط متعددة وممارسات ورموز تتداخل فيها الشرعية القانونية، التصورات الاجتماعية، والامتدادات الرقمية. والمثال هنا نأخذه من واقعة الاعتداء على “رجل سلطة برتبة قائد بمدينة تمارة” والتي جاءت في شكل مقطع “فيديو” تداوله ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، هذا الطارئ يعتبر جزءا من وقائع تعكس الحركيات والديناميات المتغيرة باستمرار في علاقة المواطنين بالدوائر الرسمية، الأمر الذي أصبح يستدعي تناول مقاربة تحليلية تتجاوز التفسير القانوني الصرف نحو استطلاع الدلالات السياسية والاجتماعية المتوارية وراء مثل هذه الأحداث.
وصلة بهذا الموضوع، نطرح ما يراه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في استئثار وإدارة الدولة للعنف المشروع بحيث يعتبر أمرا أساسيا في هيكل الدولة الحديثة، وعنصر تعمل من خلاله على أن تستمر السلطة الاجرائية في حيازة الوسائل التي من خلالها تستطيع تطبيق وفرض القانون من أجل تثبيت النظام العام واستقراره واستمراره. غير أن هذا الانفراد بالسلطة وأدواتها مرتهن بالشرعية التي تستنبطها من التماثل المجتمعي حول أسس السلطة وممارستها. كما يرى أيضا على أن الأوضاع التي تعرف نكوصا في مستويات الثقة في بعض المؤسسات، يصبح فيها هذا الاحتكار موضع مساءلة، الأمر الذي يؤدي إلى بروز أنماط جديدة من الشغب تتفاوت بين رفض الخضوع والمواجهة المباشرة مع من يمثل السلطة.
من جهة اخرى يعتبر عالم الاجتماع الكندي غوفمان، على أن ردود الفعل الاجتماعية تعمل على محاولة خلق مجال لإعادة صياغة وإنتاج الهويات وترتيب الأدوار، حيث يصبح من يمثل السلطة رمزا للتحكم، في حين يصبح الاعتداء عليه هو اعتراض واحتجاج صريح على هذه السلطة، وهي النقطة التي لا يصبح فيها العنف مجرد فعل مادي بل يأخذ مقاييس رمزية تعبر على مستوى الاحتقان الاجتماعي ومدى قبول المجتمع لسلطة إنفاد وتنزيل القانون.
إزاء هذا تظهر الحاجة لفهم العناصر والجهات التي تسهم في إصدار الاحتقان بين السلطة والمجتمع، وكيف تؤثر هذه الديناميكيات على التفاعلات السياسية والاجتماعية؟”
هوا سؤال يتيح لنا استكشاف العوامل المتعددة التي تساهم في بناء الاحتقان وكيف يمكن لهذه الديناميكيات أن تؤثر على العلاقة بين السلطة والمجتمع.
وهنا سنقف عند مكون رئيسي ومهم في إصدار هذا الاحتقان وهو الفضاء الرقمي الذي أصبح يلعب دورا رئيسا في إعادة إنتاج السلطة.
فقد اصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية تساهم في تدوير وإنتاج وتأويل الوقائع، وتصدير نظرية المؤامرة بين مرتادي هذه المواقع. فأصبح يلاحظ في كثير من الأحيان، على أن التغطية الرقمية تنهج إعادة بناء السردية المرتبطة بحدث معين، سواء بعرضه كفعل فردي معزول، أو بربطه بخطابات أوسع حول الشطط في استعمال السلطة، أو غياب العدالة الاجتماعية وما إلى ذلك.
فأصبح بذلك الامتداد الرقمي يجيز للحركات الاجتماعية توظيف الحدث ضمن استراتيجيات التعبئة، مما يعزز التوتر بين الفضاء الافتراضي والسلطة الفعلية ويفضي إلى حركات مضادة.
فالخطاب الرقمي اليوم، أصبح يضطلع بأدوار حيوية في تشكيل التصورات المجتمعية حول الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك رجال الأمن والسلطة. وفي ظل الامتداد الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الخطاب الرقمي أحد العناصر الأساسية التي تؤثر في سلوك الأفراد تجاه ممثلي الدولة، سواء إيجابا أو سلبا.
هذا الخطاب الذي يسهم في وضع اتجاهات جماهيرية عامة حيال السلطة، حيث يمكن أن يعزز احترام القانون والمؤسسات، كما يمكن أن يعمل عكس ذلك ويكون عنصرا محرض على رفض السلطة والتشكيك في شرعيتها، خاصة إذا كان يتسم بالتشويه والتضليل التطوعي والمقصود.
إن البيئة الرقمية باتت تفرز لنا مسرحا تفاعليا مفتوحا يتيح للأفراد التعبير بكل حرية، غير أن هذا التحرر و الانفتاح الرقمي لم يكن دائما مثمرا و مفيد، ففي كثير من الأحيان والأحداث يؤدي إلى بروز أنماط خطابية معادية للسلطة تتسم بالتمويه و التلاعب ضد أجهزة الدولة و محاولة ابتزازها، و يتم تصوير رجال السلطة في العديد من القضايا على أنهم أدوات للقمع بدلا من كونهم الضامنين للأمن والاستقرار، وهو ما يسبب وضعا هجومي حيالهم، فهذه السرديات التي تنتشر بسرعة عبر المحتوى الرقمي تساهم في إذكاء الضغط الاجتماعي، مما قد يؤدي إلى انتقال هذه المعاداة من الحيز الافتراضي إلى الواقع الفعلي، عبر الاعتداءات الجسدية على رجال السلطة أثناء أداء مهامهم كما هو الأمر في واقعة صفع ” القائد” أو ممن تسللوا بعد الواقعة ليشككوا في الغرض من نشر الفيديو و توقيت نشره.
إن أحد أخطر تجليات الخطاب الرقمي السلبي يتمثل في التشجيع غير المباشر على العنف من خلال توثيق ونشر مواجهات بين المواطنين ورجال السلطة، حيث يتم إخراج هذه الأحداث من سياقها القانوني، ويتم التلاعب بها لخلق صورة نمطية سلبية عن تدخلات الأجهزة الأمنية. تؤدي هذه الديناميات إلى إضعاف ثقة المواطنين في المؤسسات الأمنية، وتغذية مشاعر التحدي والرفض لسلطة الدولة، مما يشجع بعض الأفراد أو المجموعات على نهج سلوكيات غير أخلاقية والاعتداء على مؤسسات الدولة رجالاتها باعتبارهم ممثلين لسلطة القمع كما يتم تصويرهم في الخطاب الرقمي.
إلى جانب المحتوى التحريضي، يشكل انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة عامل إضافيا يساهم في تصاعد التوترات بين المواطنين والسلطة. لأن سهولة تداول الأخبار غير الدقيقة حول سلوك الفاعلين التنفيذيين، دون التحقق من صحتها، يساهم في خلق حالة من الغضب الشعبي الذي قد يترجم إلى أعمال العنف و الشغب. من هنا يتبين جليا على أن المنصات الرقمية تلعب دورا مزدوجا، فهي ليست فقط وسيلة لنقل الأخبار، بل أصبحت أداة لصناعة الرأي العام، مما يفرض على الدولة تبني استراتيجيات فعالة لمواجهة هذا النوع من التمويه الرقمي.
وفي ظل هذه التحديات، من الضروري كذلك تطوير سياسات لمواجهة الخطابات الرقمية المعادية لأجهزة الضبط الاجتماعي الرسمية، من خلال تفعيل آليات المراقبة الإلكترونية من أجل ترتيب وإيقاف المحتوى الرقمي الذي يكون تحريضيا في الغالب، وتعزيز الحملات التوعوية التي تهدف إلى تصحيح الصور النمطية السلبية حول السلطات العامة. كما ينبغي أن تعمل القنوات الرسمية على تعزيز حضورها الرقمي، من خلال نشر خطاب رسمي متوازن يعكس واقع التدخلات الأمنية ضمن إطارها القانوني، مع تفكيك السرديات الأخيرة والتضليلية التي تروج في الفضاء الرقمي. كما يتحتم تطوير شراكات مع المنابر والمنصات الرقمية الكبرى من أجل تأمين وكبح المحتوى الذي يحرض على العنف ضد أجهزة الدولة وممثلوها، في جو يسوده الالتزام واحترام حرية التعبير، دون السماح بتبديل هذه الحرية إلى أداة لنشر الفوضى والتحريض.
فالخطاب الرقمي اليوم لا يمكن فصله عن الديناميات السياسية والاجتماعية التي تؤثر في علاقة المواطنين بالدولة. لذلك، فإن أي مقاربة لمعالجة مشاهد الاعتداء على رجال السلطة يجب أن تضم بعدا رقميا يركز على إحكام وتنظيم الخطاب العام وضبطه داخل الفضاء الافتراضي، وترسيخ ثقافة رقمية مسؤولة وواعية تقوم على احترام مؤسسات الدولة، مع ضمان عدم استغلال هذا الفضاء كأداة لتأجيج الصراع بين السلطة والمجتمع.