في زاوية بعيدة من الشرق الأقصى الروسي، على ضفاف نهر آمور المتاخم للصين، يمتد الوطن القومي لليهود حاملا في طياته حلمًا تحقق منذ ما يقرب من قرن. إنها منطقة الحكم الذاتي اليهودية المعروفة باسم “بيرو بيدجانسكي” التي تأسست رسميًا في 7 مايو 1934 كجزء من خطة سوفيتية لتوطين اليهود العاملين في منطقة آمنة ومستقلة.
تعد منطقة “بيرو بيدجانسكي” نموذجًا فريدًا لحل سياسي واجتماعي يهدف إلى توفير مساحة آمنة لليهود، مشكلة تاريخا حافلا بالإنجازات التي تجاوزت الصعوبات. وقد بدأت أولى موجات الاستيطان عام 1928، عندما وصل المهاجرون اليهود من مختلف أنحاء الاتحاد السوفيتي وخارجه، ورغم الظروف المناخية القاسية ونقص الموارد، استمرت الجهود في تطوير المنطقة وتحويلها إلى مركز للاستقرار والتنمية.
فسيفساء ثقافي وديني
تمتد المنطقة على مساحة 36.3 ألف كيلومتر مربع، حيث يلتقي التنوع الثقافي والطبيعة الخلابة، ورغم أنها تضم سكانًا من أعراق أخرى، فإنها تحمل في قلبها هدفًا أصيلًا منذ بدايتها، وهو توفير موطن لليهود. وبدأت فكرة إنشاء هذا الوطن القومي في عشرينيات القرن الماضي، وبعد مناقشات عديدة، وقع الاختيار على منطقة “بيرو بيدجانسكي”، لتصبح موطنًا للتجربة السوفيتية في دمج الاستيطان اليهودي مع مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
بحسب نتائج التعداد السكاني في روسيا لعام 2020، بلغ إجمالي عدد سكان المنطقة اليهودية الذاتية الحكم 150,580 شخصًا. ومن بين هؤلاء، كان 106,517 شخصًا يعيشون في المدن و44,063 في المناطق الريفية. وبلغ عدد الرجال 70,718 بينما بلغ عدد النساء 79,862. أما إذا نظرنا إلى السكان المقيمين بشكل دائم في المنطقة، فقد بلغ عددهم 150,453 شخصًا. وفيما يتعلق بالأشخاص المقيمين بشكل مؤقت، بلغ عددهم 127 شخصًا فقط، مع تفوق النساء على الرجال بين هؤلاء الأشخاص.
من حيث الأديان، يعتنق حوالي 23 بالمائة من السكان الأرثوذكسية الروسية، بينما يتبع 6 بالمائة الكنائس الأرثوذكسية الأخرى، كما يُعتبر 9 بالمائة مسيحيين غير منتسبين لأي طائفة محددة، بينما يرفض 22 بالمائة التصنيف الديني، وهناك هناك أيضًا أقل من 1 بالمائة من اليهود و5 بالمائة من الأفراد يعتنقون ديانات أخرى.
رحلة الاستيطان
وصل اليهود الأوائل إلى سيبيريا في وقت مبكر من القرن السابع عشر. وخلال الحرب بين روسيا وبولندا (1632-1634)، أسر الروس سكانًا من المدن والقرى، بينهم بولنديون وألمان وليتوانيون ويهود. وبسبب المخاوف الأمنية في موسكو، تم نفي الأسرى إلى بيرم وسيبيريا للعمل “في خدمة الدولة” أو لاستصلاح الأراضي الزراعية.
بعد انتهاء الحرب، نصت معاهدة السلام مع بولندا على أن للأسرى من “الليتوانيين والألمان واليهود” الخيار بين البقاء في الخدمة بالدولة الروسية أو العودة إلى أوطانهم، مع ضمان القيصر ميخائيل فيدوروفيتش منحهم حرية المغادرة دون عوائق. ورغم ذلك، اختار بعض الأسرى البقاء في سيبيريا، حيث اعتنق بعضهم المسيحية الأرثوذكسية وتزوجوا من روسيات، بينما احتفظ آخرون بإيمانهم، وكان بينهم على الأرجح يهود استقروا هناك.
وفي عهد القيصر أليكسي ميخائيلوفيتش (1645 – 1676) ، اندلعت حرب أخرى مع بولندا، نُقل على إثرها العديد من اليهود، رجالًا ونساءً وأطفالًا، إلى روسيا مع أسرى آخرين. انتهى المطاف ببعضهم في موسكو، حيث تم اكتشاف وجودهم في عام 1659 خلال حملة تفتيش في الحي الألماني. ورغم أن اليهود المعمدين فقط كانوا يُسمح لهم بالإقامة في العاصمة في ذلك الوقت، فإن هؤلاء الأسرى احتفظوا بإيمانهم وعاشوا في موسكو دون إذن.
من النفي إلى الاستقرار
تحت تهديد الترحيل، تحول بعض اليهود إلى اللوثرية ليتمكنوا من البقاء في الحي الألماني، في حين تمسك الآخرون بإيمانهم اليهودي، مما أدى إلى نفيهم مع أسرهم إلى سيبيريا ليعيشوا هناك “إلى الأبد”. حاول بعض المنفيين لاحقًا العودة إلى العاصمة، لكن مرسومًا قيصريًا أمر بإعادتهم إلى المنفى في سيبيريا.
في عهد نيقولا الأول (1825-1855)، بدأت السلطات في إرسال الجنود اليهود والكانتونست إلى سيبيريا. ومع مرور الوقت، أسسوا عائلات وشكلوا مجتمعات يهودية في المدن وبنوا معابد يهودية للجنود. وفي عام 1835، خصصت السلطات أراضٍ في مقاطعة توبولسك ومنطقة وراء أومسك لإعادة توطين الفلاحين اليهود في الأطراف المهجورة لروسيا.
وفقًا لتعداد عام 1897، بلغ عدد اليهود في سيبيريا والشرق الأقصى ثلاثة وثلاثين ألفًا. كان من بينهم حوالي ثلاثة آلاف في إيركوتسك وتومسك، وأكثر من ألف في أومسك وكراسنويارسك وتشيتا، وحوالي ثلاثمائة في فلاديفوستوك وبلاغوفيشتشينسك، بينما بلغ عدد اليهود في كاينسك تسعمائة وثلاثين من أصل ستة آلاف نسمة في المدينة. كما سجلت مدينة سخالين مئة وسبعة وعشرين يهوديًا، في حين كان هناك ستة في مدينة ياكوت في فيرخويانسك.
انتشر هؤلاء اليهود في مناطق شاسعة ومعزولة عن إخوانهم في أوروبا، ما جعلهم يتأثرون بالثقافات المحلية ويشكلون نوعًا خاصًا من يهود سيبيريا. وفقًا لشهادة أحد المعاصرين، لم يكن يهود سيبيريا على دراية كبيرة بالأبجدية العبرية، لكنهم كانوا يتبعون تقاليد دينية بطريقتهم الخاصة، وتبنوا عادات وثقافة المجتمع المحلي، حيث كان العديد منهم يشربون الفودكا، ويلعبون الورق، وتغني الفتيات اليهوديات في القرى الأغاني الروسية خلال الرقصات الشعبية.
تمثل تجربة منطقة “بيرو بيدجانسكي” صفحة مميزة في تاريخ الاستيطان اليهودي، رغم التحديات المناخية والجغرافية، أصبحت المنطقة نموذجًا للتعايش الثقافي والاجتماعي. وبينما تقلص عدد اليهود في المنطقة حاليًا، يظل تاريخها شاهدًا على جهود بناء وطن قومي لليهود في أحضان سيبيريا الشاسعة.