قيل إن “الفن توق نحو الجمال المطلق”، وألحان الراحل محمد بن عبد السلام أبدعُ هذا التوق.
في صباح خريفي بالعاصمة الرباط، رحل عن دنيا الناس الموسيقار والملحن محمد بن عبد السلام، تاركا وراءه إرثا فنيا يذكر، وحياة زاخرة بالعطاء والإبداع.
عن عمر ناهز الـ 94 عاما رحل الفنان الكبير محمد بن عبد السلام “سيد الأغنية المغربية الزجلية” رحل من منح شغفُه اللهجة المغربية والزجل، طابعا موسيقيا خاصا جسد روح الشعب. رحل من كانت إبداعاته مرآة تعكس الواقع المغربي، ونافذة تطل على أماله وأحلامه.
أشرقت موهبة محمد بن عبد السلام المولود عام 1932 بمدينة سلا، في الميتم البيضاوي الذي التحق به عام 1940، وترعرعت بين أروقته روحه الموسيقية حيث تعلم تحت إشراف الأستاذ أحمد زنيبر، فنون العزف على الكمان، والعزف على آلات العود وآلات أخرى، ليبدأ رحلته في عالم الألحان، وسط كوكبة من الفنانين الذين سيصبحون فيما بعد أعمدة الفن المغربي. في جو موسيقي غني ساعد في صقل موهبة الراحل.
في بداية الخمسينيات، عاد إلى مدينته سلا العامرة وأسس جوق “الاتحاد السلاوي”، ليُحيي حفلات غنائية تجوب المدن المغربية إبان الاستعمار الفرنسي. وفي عام 1952، خلد اسمه كملحن لأول مرة من خلال أغنية “يا لخاطف عقلي”، التي كتب كلماتها الفنان الراحل محمد حسن الجندي. كما سجل في نفس العام معزوفته الأولى “بوادر”، فاتحا بذلك أبواب الإبداع الموسيقي الذي لن يُغلق بعد ذاك.
التحق محمد بن عبد السلام بالإذاعة المغربية سنة 1952، لينضم إلى الجوق العصري واشتغل هناك إلى جانب أسماء لامعة مثل أحمد الشجعي وعبد النبي الجراري وعبد القادر الراشدي، إلى حدود 1954. وقاد فيما بعد جوق “المتنوّعات”، ثم الجوق “الوطني” الذي توحد فيه الجوق الوطني مع الجوق العصري بأمر من مدير دار الإذاعة المهدي المنجرة سنة 1959.
مهارات الراحل تجاوزت العزف والتلحين، إلى اكتشاف المواهب وصقلها. مساهما بذلك في بزوغ العديد من الفنانين وسطوع نجم آخرين، مثل بهيجة إدريس وأمينة إدريس ومحمد الإدريسي. كما احتضن عبد الوهاب الدكالي في بداياته الفنية، وساهم في تلحين أغنيات خالدة له، من بينها “يا لغادي فالطوموبيل” و”مول الخال”. ومن خلال ألحانه، حصد إسماعيل أحمد شهرة واسعة بأغنية “سولت عليك العود والناي”. كذلك، لحن لنعيمة سميح رائعة “البحارة”، إلى جانب أعمال أخرى أثرت الأغنية المغربية.
سولت عليك العود والنــــاي وانغامه
سولت عليك الورد والزهر ونسامه
سولت عليك الياسمين
سولت عيون الساهرين
سولت عليك كل عاشق ولهان
سولت عليك أصحاب الغيوان
لا العود أعطانـــــي أخبارك ولا الناي كشف لي أسرارك
سولت عليك العود سولت عليك الناي
لم يقتصر إبداع بن عبد السلام على الأغاني العاطفية فقط، بل لحن قطعا قومية خالدة شاهدة على وطنيته وارتباطه بقضايا أمته. ليبدع بذلك عام 1973، في تلحين “المجد العربي” بمناسبة الانتصار في حرب أكتوبر، التي أُديت بمشاركة كبار الفنانين العرب. كما لحن “القنطرة” التي غناها محمد فويتح ومحمد المزكلدي، وقصيدة “صوت الأحرار” للزعيم علال الفاسي،
أما عن أسلوبه الفني، فقد كان يتسم بالجرأة والصراحة. ومما روي عنه أنه عندما سمع لحنا جديدا لأحمد البيضاوي، قال بصراحته المعهودة “خلي الشعبي لمواليه”، في إشارة إلى ضرورة تركيز البيضاوي على القصائد الكلاسيكية التي يتقنها بدلا من الأغاني الشعبية.
زخرَت مسيرة بن عبد السلام الفنية التي تجاوزت نصف قرن، بأكثر من 250 عملا موسيقيا، أدّاها كبار الفنانين. من قبيل “الظروف” لعبد الهادي بلخياط، التي أثارت جدلا واسعا في السبعينيات، و”السنارة”، التي تحمل بصمته الإبداعية الفريدة. كما تعاون مع مطربين غير مغاربة، أبرزهم الفنانة علية، التي غنت من ألحانه “أنا من أنا”، وهي قصيدة للشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي.
بترجل الراحل عن دنيا الناس، تكون الأغنية المغربية قد فقدت أحد أبرز معلميها، رجلا كرّس حياته للفن دون كلل، وسعى دائما للارتقاء الإبداع المغربي، جاعلا من إرثه الفني، علامة مضيئة في تاريخ الموسيقى المغربية.
فرحمة الله عليه، ولتكن ذكراه خالدة في قلوب محبيه وعشاق فنه.