قرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية هو في حد ذاته خطوة إيجابية على طريق تحقيق العدالة. وبالرغم من كونه تأخر كثيرا بسبب ما تعرضت له المحكمة والمدعي العام من ضغوط وتهديدات مازالت تلاحق البعض منهم ودفعت آخرين إلى الاستقالة لأسباب سوف تنكشف أسبابها الخطيرة ذات يوم، إلا أنه يشكل تحولا قانونيا تاريخيا لأنه سيسمح لأول مرة بوضع المسؤولين الإسرائيليين أمام العدالة لمحاكمتهم على أفعالهم، وبالتالي ينهي إفلاتهم من العقاب الذي استمر أكثر من 75 سنة هو عمر الكيان المستنبت على أرض فلسطين التاريخية، بل وسوف يفتح الباب لمحاكمة إسرائيليين آخرين، جنودا وضباطا ومستوطنين، تلاحقهم شكاوى لدى الجنائية الدولية بنفس التهم التي تلاحق نتنياهو وغالانت.
لكن، وبدون تسرع، فإن القرار الحالي رغم أهميته، فهو لا يزكي المحكمة ومدعيها العام، فنفس المحكمة هي من عطلت التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الأمريكي في العراق أفغانستان، ونفس المدعي العام، كريم خان، هو من جمد التحقيقات التي كانت قد بدأتها سلفه فاتو بنسودة في جرائم حرب إسرائيلية وجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما أن تأخر إصدار القرار الحالي ثلاثة عشر شهرا، بينما لم يتطلب إصدار قرار مماثل ضد الرئيس الروسي فلادمير بوتين عام 2022 سوى ثلاثة أسابيع ، يضع المحكمة ومدعيها العام أمام مسؤوليتهما الأخلاقية، لأنه طيلة الأشهر الثلاثة عشر التي تطلبها إصداره قتلت إسرائيل أكثر من 44 ألف فلسطيني، جلهم من الأطفال والنساء والمدنيين، وخلفت أكثر من مائة ألف مصاب أغلبهم بعاهات مستديمة، وكل هؤلاء الضحايا لن يعيد لهم هذا القرار الحياة أو الاعتبار وبالأحرى الحق الذي ضاع منهم إلى الأبد بسبب تأخر المحكمة وقضاتها في القيام بواجبهم المهني القانوني والأخلاقي منذ اليوم الأول لهذه الجرائم التي مازلت مستمرة حتى يوم الناس هذا.
وكيف ما كانت المآخذة على المدعي العام وعلى قضاة المحكمة، المطالبون اليوم بالكشف عن كل الضغوط التي تعرضوا لها والجهات التي مارستها ضدهم لفضحها أمام الرأي العام العالمي، فإن قرارهما يستحق الوقوف عند جوانبه الإيجابية وهي كثير، ولعل أهمها هو سقوط الحصانة الدولية التي كانت تحظى بها إسرائيل وقادتها الذين ألفوا ارتكاب جرائمهم بعيدا عن كل محاسبة أو عقاب، فقط لأنهم يهود، أو لكون اليهود كانوا في يوم ما ضحية للهولوكوست النازي الغربي. ولعل هذا ما دفع إسرائيل إلى انتقاد قرار المحكمة واتهامها بمعاداة السامية لأن هذا القرار أسقط هذه الفزاعة التي كانت الدولة العبرية تٌرهب بها كل من ينتقدها أو ينتقد سياساتها الإجرامية وعقيدتها الصهيونية العنصرية الإرهابية.
صحيح أن القرار الحالي لن يؤدي فورا إلى اعتقال مجرمي الحرب الإسرائيليين ووضعهما وراء القضبان، لكنه على الأقل سوف يحد من تحركاتهما على مستوى العالم، وسوف يدخل الخوف والرهبة إلى قلوب إسرائيليين آخرين ممن ارتكبوا أفعال مماثلة وقد تكون قد صدرت ضدهم مذكرات سرية من نفس المحكمة ولم يعلن عنها لأسباب قانونية. وعكس ما تدعيه التصريحات الإسرائيلية المنفعلة أو تلك المساندة لها من دول مثل أمريكا التي تطعن في مصداقية المحكمة، فإن ردود الفعل من جميع أنحاء العالم تؤكد أن مصداقية المحكمة ستزداد بعدما كانت متهمة بأنها لا تصدر قراراتها سوى ضد مواطنين أفارقة أو من العالم الثالث، فالمنتصر الأول والأكبر من هذا القرار هو القانون الدولي الذي يجب أن يكون كونيا، وأن لا يخضع تطبيقه لمعايير مزدوجة أو مزاجية، وهذه فرصة جديدة للمحكمة لإعادة بناء الثقة فيها وأيضا للتخلص من إجراءاتها البيروقراطية الطويلة التي تعطل تحقيق العدالة.
البعد الآخر لهذا القرار هو ما ينطوي عليه من تحول استراتيجي وجيوسياسي كبير سوف تظهر مفاعيله في ما هو مقبل من أيام. فتنفيذ هذا القرار ، وربما قرارات أخرى مماثلة صادرة أو سوف تصدر ضد إسرائيليين، سيضع 124 دولة عضوا في المحكمة أمام اختبار حقيقي لمدى احترامها للقانون الدولي، وقد سارعت عدة دول، خاصة في أروبا، إلى الإعلان بأنها سوف تحترم القرار ، ودول أخرى أعلنت عدم التزامها به، عددها حتى الآن ثلاثة هي الولايات المتحدة الأمريكية والأرجنتين والمجر. كما أن هناك دول التزمت الصمت، خاصة الدول العربية، ودول سوف تتدرع إما بكونها ليست عضوا داخل المحكمة أو بالقول إن قرارتها مسيسة وبالتالي فهي لن تحترمها، وهكذا سوف نشهد فرزا حقيقا في الأيام المقبلة ما بين الدول التي تحترم القانون الدولي، وبين تلك التي تدافع عن دولة منبوذة زعماؤها متهمون بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما سيضع هذه الدول في موضع المسائلة القانونية والسياسية والأخلاقية بخصوص مشاركتها أو تواطؤها مع دولة مارقة ارتكب جيشها أكبر وأبشع إبادة جماعية في القرن الواحد والعشرين.
لقد كشفت ردود الأفعال تجاه هذا القرار، الصادر ة حتى الآن، عن حجم العزلة الكبيرة التي وضعت فيها إسرائيل نفسها بين دول العالم ووسط الرأي العام الدولي، وسوف تزداد هذه العزلة عمقا مع تداعيات هذا القرار وربما صدور قرارات مماثلة ضد إسرائيليين آخرين متهمين بنفس الأفعال. أما الدول القليلة التي انتقدت القرار، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي سبق أن رحبت بقرار نفس المحكمة ضد الرئيس الروسي فلادمير بوتين وضد الرئيس السوداني عمر البشير، فقد كشفت للعالم عن ازدواجية معاييرها وعن سقوطها الأخلاقي المروع، وهو ما سيجعلها تفقد ما تبقى لها من رصيد في مصداقيتها المتآكلة أمام رأيها العام أولا، وأمام الرأي العام العالمي، بسبب مساندتها غير المشروطة لإسرائيل ودعمها لها بالمال والسلاح وتوفير المبررات السياسية والتغطية الإعلامية والحماية القانونية لاستمرار حربها الإجرامية طيلة الأشهر الماضية.
أما بالنسبة لدول الجنوب، عموما، فإن القرار سوف يقوي موقف الدول المؤيدة لحقوق الإنسان في العالم، خاصة الديمقراطيات الكبرى خارج نادي الديمقراطيات الغربية، مثل جنوب افريقيا والبرازيل اللتان تميزتا بمواقفهما الشجاعة المنتقدة للجرائم الإسرائيلية منذ بداية العدوان الهمجي على غزة، وسوف ينعكس هذا إيجابا على الدعوة التي رفعتها جنوب افريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل تتهمها فيها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وكيفما كان حكم المحكمة المنتظر منذ نحو عام، فإنه لن يكون متناقضا مع قرار محكمة الجنائية الدولية، خاصة وأن قضاة محكمة العدل الدولية لم يعد أمامهم ما يبرر خوفهم أو ترددهم أو تأخرهم في إصدار حكمهم بما تمليهم عليهم ضمائرهم، حكم ينتصر للحق والعدل وليس لشيء آخر.
وأخيرا، بالنسبة للمغرب، فإن هذا القرار يضع السلطات المغربية الرسمية في موقف حرج لا تحسد عليه، خاصة وأنها هي من زجت بنفسها وبدولتها وبشعبها في اتفاقات ربطتها بدولة قادتها مجرمو حرب، فهي اليوم أمام واجب توضيح موقفها من قرار الجنائية الدولية، حتى لو لم تكن الرباط عضوا فيها، لأن التزام الصمت يفسر ضدها لجهة اصطفافها إلى جانب إسرائيل وقادتها المجرمين، كما اصطفت إلى جانبها طيلة الأشهر الثلاثة عشر الماضية من خلال البقاء على علاقات التطبيع معها، واستمرار التعاون بينهما في جميع المجالات بما في ذلك الأمنية والعسكرية، والسماح للسفن المحملة بالعتاد العسكري بالرسو في الموانئ المغربية قبل مواصلة سيرها نحو الكيان الصهيوني لاستخدامها في ارتكاب جرائم حرب وجرام ضد الإنسانية في غزة ولبنان.
المغرب الرسمي اليوم أمام اختبار مسؤوليته الأخلاقية والسياسية تجاه القانون الدولي، وتجاه الشعب الفلسطيني الشقيق، وتجاه الشعب المغربي الذي لم يتوقف عن الخروج في مظاهرات ومسيرات مناصرة للشعب الفلسطيني ومطالبة بإسقاط التطبيع، فهذه فرصته لإنقاذ ما تبقى له من مصداقية تآكلت منذ التوقيع على اتفاقات التطبيع المشؤومة، وقد حان الوقت لصانع القرار الرسمي في المغرب أن يختار صفه على الجانب الصحيح من التاريخ، وينأى بنفسه وشعبه وبلده عن كيان مجرم يقوده مجرمو حرب تطاردهم عدالة الأرض والسماء.