تلقت الحركة الماركسية اللينينية ضربات قوية بسبب القمع والاعتقالات التي واجهت بها الدولة الرغبة في الإطاحة بالنظام والعمل الثوري على إسقاطه، من طرف منظمات “إلى الأمام” و”23 مارس” ولنخدم الشعب”، غير أن الخلافات الداخلية وتباين وجهات النظر بخصوص التجربة، والمراجعات التي أطلقها بعض أعضاء التنظيمات، كان لها دور أقوى في تفجير التناقضات الداخلية التي أغرقت التنظيمات في الصراعات الحلقية، قبل أن يتوج المخاض ببروز تيارات سياسية عدت نفسها الاستمرار النوعي والموضوعي للحملم.
التنظيمات الثورية التي ألهبت الصراع السياسي ضد نظام الملك الراحل الحسن الثاني خلال سنوات السبعينات، سرعان ما وجدت نفسها بين مطرقة القمع وسندان الخلافات الداخلية، ذلك أن المعركة التي دخلتها الحركة الماركسية اللينينية المغربية لم تكن متكافئة في موازين القوى، غير أنها تركت بصمتها العميقة في التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد، وظلت حاضرة بقوة في التنظيمات الحقوقية والنقابية والسياسية، وإن خفتت حدة المواقف مع اللجوء إلى العمل العلني والاشتغال في إطار الشرعية.
إرث الحركة الماركسية اللينينية بالمغرب ظل حاضرا في عدد الإطارات، إذ ظهر على مستوى الجامعة المغربية تنظيم الطلبة القاعدين بشتى مكوناتها، إضافة إلى بروز الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وكذا تأسيس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي تحولت بعد سنوات إلى الحزب الاشتراكي الموحد، ثم تأسيس حزب النهج الديمقراطي بعد فشل محاولات التجميع والإعلان عن حل منظمة إلى الأمام، إضافة إلى حضور إرث الحملم داخل العمل النقابي، وسط الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وهو ما أسفر محطات تاريخية بارزة للمواجهة مع الدولة، خلال الاحتجاجات العارمة لسنوات 1981 و1984 و1991 أساسا، والتي تم مواجهتها بقمع شديد.
حملة الاعتقال وانطلاق المراجعات
الاعتقالات في صفوف أعضاء المنظمات الماركسية اللينينية بالمغرب، جعلت منظمة “23 مارس” تتلقى ضربة موجعة بات معها وجودها في الداخل شبه منعدم، وإن ظلت نشطة في الخارج، خاصة في فرنسا. وهو ما كان إيذانًا ببدء مراجعات داخلية انتهت بالتحول إلى منظمة شرعية هي “منظمة العمل الديمقراطي الشعبي”، التي تبنت خطًا أكثر اعتدالًا.
أما منظمة “إلى الأمام”، فقد واصلت مسارها الراديكالي، ورفعت شعار تقرير المصير في الصحراء، وهو ما زاد من عزلتها السياسية وسهّل استهدافها أمنيًا، ليتم اعتقال كل قياداتها المتبقية في الداخل عام 1976. ومع ذلك، حاول بعض مناضليها إعادة البناء داخل الجامعات، لكن هذه المحاولات انتهت بمزيد من الاعتقالات، كما حدث مع مجموعة سجن مكناس عام 1977.
ومع دخول عقد الثمانينيات، لم يكن القمع هو العدو الوحيد لهذه التنظيمات، بل كانت التناقضات الداخلية عاملًا حاسمًا في تفككها. حيث تفجرت الخلافات داخل “إلى الأمام” بين ما عُرف بالتيار الثوري والتيار “العمالوي التصفوي”، حيث رأى الأخير أن التنظيمات الماركسية اللينينية لم تعد قادرة على تحقيق أهدافها، ودعا إلى حلها والاندماج بشكل فردي في الطبقة العاملة.
داخل السجون، اشتدت الصراعات الإيديولوجية، وظهرت انقسامات حادة بين ما تصفه أدبيات اليسار التي تطرقت لهذه المرحلة بـ”الخط الثوري” و”الخط اليميني الانتهازي”، حيث انتهت هذه الصراعات بانسحاب بعض القيادات مثل أبراهام السرفاتي وعبد الحميد أمين، وبتحول جزء من المنظمة إلى تيار إصلاحي يتبنى سياسات أكثر اعتدالًا.
من السرية إلى العلنية..
مع نهاية الثمانينيات، أصبحت التنظيمات السرية لليسار الجديد شبه غائبة عن الساحة الوطنية، باستثناء بعض النشاطات في الخارج، بينما انخرط مناضلوها السابقون في العمل الحقوقي والنقابي. كان ذلك جزءًا من تحول استراتيجي فرضه الواقع السياسي الذي واجه أعضاء التنظيمات الثورية، إلى جانب التحولات الدولية بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي.
وبدى بديهيا للبعض أن خيار الاستمرار في العمل السري لم يعد واردا بعد الضربات التي تلقتها التنظيمات الثورية، غير أن البعض الآخر رأى أن البحث عن العلنية والعمل في إطار الشرعية إعلان مقّنع عن الارتماء في أحضان الدولة، مما فجر خلافات نظرية وإيديولوجية، وجعل مرحلة الثمانينات تتسم بمراجعات وتقييمات متباينة.
في التسعينيات، استكملت هذه التحولات مسارها مع إطلاق سراح آخر المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين، باستثناء السرفاتي الذي لم يُسمح له بالعودة إلا في 1999. وفيما كانت محاولات تجميع مناضلي اليسار الجديد تفشل تباعًا، تشكلت تيارات جديدة مثل “النهج الديمقراطي” و”الحركة من أجل الديمقراطية”**، التي حاولت الحفاظ على الروح الثورية لكن ضمن إطار الشرعية والعمل العلني.
ما تبقى من الحلم الثوري..
بعد اندثار تجربة التنظيمات التي حملت شعار الماركسية اللينينية من الوجود، تحت سياط التعذيب والقمع والاعتقالات، وكذا الخلافات والانقسامات الداخلية، ظهرت تنظيمات بنفَس إصلاحي، وانصهرت مكونات أخرى داخل العمل الحقوقي والنقابي، فيما يتواصل الوجود الراديكالي داخل الجامعات، وإن كان بشكل محدود مقارنة بسنوات مجد النضال الطلابي.
ولمّا كانت الأفكار سلاح التنظيمات الثورية في الأدب كما السياسة ومختلف الواجهات، فإن هذا السلاح ما زال يجد صداه في الحركات الاحتجاجية، وفي المطالب الاجتماعية التي تستعيد مفردات الخطاب اليساري الراديكالي، وإن كان بملامح جديدة، مع استحضار الكثيرين لتجربة “الحملم” بالتقدير نظير مع قدمه أعضائها من ضريبة كبيرة سنوات الجمر والرصاص، رغم أوجه النقص والتقصير.
ومع هذا المآل، ما يزال كثيرون ممن عايشوا “حلم الثورة”، يرون أن انطفاء التنظيمات الماركسية اللينينية لا يعني أن جذوة التمرد والرفض والاحتجاج التي أوقدتها انطفئت كذلك، بل تسللت إلى زوايا أخرى، ربما أقل صخبًا، لكنها لا تزال تبحث عن فرصة أخرى لتعيد تشكيل المشهد، بما يضمن العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية المغربية.