بقلم عبد الحكيم العياط
باحث جامعي في العلوم السياسية
شهدت العلاقات المغربية الجزائرية تصعيدًا غير مسبوق في السنوات الأخيرة، بلغ ذروته بقرار الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في 2021، واستمر التوتر ليشمل إغلاق المجال الجوي، وتبادل الاتهامات في المحافل الدولية، وأخيرًا طرد مدير القنصلية المغربية من الجزائر.
هذه الخطوة الأخيرة ليست مجرد إجراء دبلوماسي عابر بل تعكس عمق الأزمة واستمرار سياسة التصعيد بين البلدين.
هذا التوتر ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكمات تاريخية وسياسية، حيث تشكل قضية الصحراء المغربية المحور الأساسي للخلاف بين الجانبين، إلى جانب عوامل جيوسياسية أخرى مرتبطة بتوازنات القوى في المنطقة المغاربية.
غير أن التطورات الإقليمية والدولية والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، قد تفرض على الطرفين مراجعة مواقفهما في المستقبل، مما يفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة، تتراوح بين استمرار القطيعة والتوتر، أو حدوث انفراج تدريجي، أو حتى وساطات دولية قد تفرض حلولًا وسطى.
يبدو سيناريو استمرار التوتر هو الأكثر ترجيحًا في الوقت الراهن، إذ لا توجد أي مؤشرات على وجود إرادة سياسية لدى أي من الطرفين لكسر الجمود. الجزائر تتبنى خطابًا تصعيديًا تجاه المغرب، متهمة إياه بتهديد أمنها القومي، خاصة بعد التقارب المغربي الإسرائيلي وتوقيع اتفاقيات عسكرية بين الرباط وتل أبيب.
في المقابل، حقق المغرب نجاحات دبلوماسية كبرى، من أبرزها اعتراف الولايات المتحدة بسيادته على الصحراء، واتساع رقعة الدول الداعمة لمقترح الحكم الذاتي، مما جعل الجزائر تشعر بأنها في موقف دفاعي إقليميًا.
هذه المعادلة خلقت نوعًا من التنافس الحاد، حيث تحاول الجزائر حشد الدعم لموقفها المناوئ للمغرب داخل الاتحاد الإفريقي ومن خلال علاقاتها الثنائية مع بعض القوى الدولية، بينما يسعى المغرب إلى ترسيخ مكاسبه عبر تعزيز حضوره الاقتصادي والسياسي في القارة الإفريقية واستقطاب المزيد من الدعم لمبادرته السياسية لحل النزاع.
على المستوى العسكري، يعكس سباق التسلح المستمر بين البلدين مستوى التوجس وانعدام الثقة، حيث عزز المغرب قدراته الدفاعية من خلال صفقات عسكرية ضخمة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، بينما واصلت الجزائر اقتناء معدات متطورة من روسيا، مما يجعل خطر المواجهة المسلحة، وإن كان مستبعدًا، أحد السيناريوهات غير القابلة للاستبعاد تمامًا.
الجانب الاقتصادي يلعب أيضًا دورًا محوريًا في استمرار الأزمة، فالجزائر تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط والغاز، ومع تقلب الأسعار في الأسواق العالمية، تجد نفسها أمام تحديات داخلية قد تجعلها تراجع أولوياتها الاستراتيجية.
هذه التحديات تتجلى بشكل خاص في نسب البطالة المرتفعة، والتباطؤ الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد رغم الوفرة المالية التي تحققها بفضل صادراتها الطاقية.
في المقابل، يسعى المغرب إلى تعزيز اقتصاده من خلال استثمارات أجنبية، وانفتاحه على أسواق جديدة، لكنه يدرك أن فتح الحدود مع الجزائر يمكن أن يوفر فرصًا اقتصادية كبرى لكلا البلدين، خصوصًا في ظل التكامل المحتمل بين الموارد الجزائرية والبنية التحتية المغربية.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين لا يزال ضئيلًا جدًا، حيث لا يتجاوز بضع مئات الملايين من الدولارات سنويًا، في حين أن إمكانيات التعاون الاقتصادي تفوق ذلك بكثير، خاصة في مجالات الطاقة والتجارة والصناعة.
رغم هذه الإمكانيات، فإن الجمود السياسي يحول دون تحقيق أي تقارب اقتصادي بين الطرفين، ما ينعكس سلبًا على شعبي البلدين، الذين يدركون أن العلاقات الاقتصادية الطبيعية يمكن أن تساهم في تحسين أوضاعهم المعيشية.
الوساطة الدولية قد تكون خيارًا مطروحًا إذا تفاقمت الأزمة إلى مستوى يهدد استقرار المنطقة المغاربية. بعض الدول، مثل فرنسا والولايات المتحدة، قد تجد مصلحة في تخفيف التوتر بين البلدين لتجنب أي انعكاسات أمنية أو اقتصادية على المنطقة الأورو-متوسطية.
كما أن بعض الدول الخليجية، التي تربطها علاقات قوية بالطرفين، قد تلعب دورًا في تقريب وجهات النظر، خصوصًا في ظل استثماراتها المتزايدة في المنطقة. في هذا السياق، سبق أن بذلت بعض الدول الخليجية محاولات غير معلنة لرأب الصدع بين البلدين، لكنها اصطدمت بجدار من التعنت السياسي وعدم الاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة. غير أن أي وساطة دولية لن تكون ذات جدوى إذا لم يكن هناك استعداد حقيقي من المغرب والجزائر لتقديم تنازلات متبادلة، وهو أمر يبدو صعبًا بالنظر إلى حدة الخطاب الرسمي في البلدين.
رغم أن سيناريو التصعيد يبدو هو الأكثر واقعية على المدى القريب، فإن احتمال حدوث تغيير مفاجئ في مسار العلاقات يظل قائمًا. قد يكون هذا التغيير مرتبطًا بأزمة اقتصادية كبرى في الجزائر تدفعها إلى مراجعة سياساتها الخارجية، أو بمتغيرات جيوسياسية تفرض على البلدين التعاون المشترك.
كما أن المغرب، رغم موقفه القوي، قد يجد مصلحة في تخفيف حدة التوتر إذا فرضت الظروف ذلك، سواء لأسباب اقتصادية أو نتيجة لضغوط دولية. في هذا السياق، لا يمكن استبعاد احتمال حدوث تغيرات سياسية داخلية في الجزائر قد تؤدي إلى إعادة النظر في علاقاتها مع المغرب، خاصة إذا تبين أن سياسة القطيعة لم تحقق الأهداف المرجوة منها.
كذلك، فإن أي متغيرات في مواقف القوى الكبرى قد تساهم في تغيير التوازنات الإقليمية مما قد يدفع البلدين إلى مراجعة استراتيجياتهما.
في ظل هذه السيناريوهات، يظل مستقبل العلاقات بين البلدين مفتوحًا على احتمالات متعددة، لكن الاتجاه العام يشير إلى أن القطيعة ستستمر على المدى القريب.
ومع ذلك، فإن العامل الاقتصادي، وضغوط المجتمع الدولي، والتحولات الجيوسياسية، قد تفرض يومًا ما إعادة النظر في هذا الوضع المتأزم.
يبقى السؤال الأهم: هل ستظل العلاقات المغربية الجزائرية رهينة الصراعات التاريخية، أم أن هناك فرصة لفتح صفحة جديدة قائمة على المصالح المشتركة بدلًا من المواجهة الدائمة؟
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Telegram
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على X