الإثنين, مارس 3, 2025
Google search engine
الرئيسيةالشامل المغربيالمأزق القانوني والأخلاقي لمحكمة العدل الأوربية في ملف الصحراء المغربية

المأزق القانوني والأخلاقي لمحكمة العدل الأوربية في ملف الصحراء المغربية


في أكتوبر الماضي، أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكمًا يقضي ببطلان الاتفاقيات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب في الصحراء، مستندةً إلى غياب “موافقة شعب الصحراء على التنفيذ”. استندت المحكمة في ذلك إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 1975، مما يثير تساؤلات حول الأسس القانونية لهذا الحكم ومدى انسجامه مع الواقع التاريخي والسياسي. من جانب آخر، اعتبر المغرب أن القرار “انحياز سياسي صارخ”، لأنه يكرّس أخطاءً قانونية سابقة بدلاً من تصحيحها، ويمثل استمرارًا لمنطق استعماري قديم يسعى إلى إضعاف سيادة الدول بدلاً من دعم استقرارها.

لكن الأهم من ذلك هو أن هذا الحكم ليس معزولًا عن سياق أوسع، بل هو امتداد لمنظومة قانونية غير متسقة تتجاهل الحقائق التاريخية وتعيد إنتاج مظالم الماضي. فبدلًا من أن تسعى المحاكم الأوروبية إلى تصحيح الأخطاء الاستعمارية التي أدت إلى تفتيت الدول، نجدها اليوم تُمعن في دعم كيانات غير شرعية، متجاهلةً الواقع القانوني والإنساني الذي فرضته قراراتها المجحفة.

الارتباط بين قرار محكمة العدل الأوروبية والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية

لم يأتِ قرار محكمة العدل الأوروبية بمعزل عن السياق القانوني الذي أرساه حكم محكمة العدل الدولية عام 1975، بل هو امتداد لاجتهاد قانوني مشوّه أسس لاضطراب قانوني مستمر منذ نصف قرن. ففي حكمها الاستشاري، نفت محكمة العدل الدولية ادعاء الاستعمار الإسباني بأن الصحراء كانت “أرضًا خلاء”، وأكدت وجود روابط قانونية وروابط بيعة بين القبائل الصحراوية والسلطان المغربي. ومع ذلك، انتهت المحكمة إلى اعتبار هذه الروابط غير كافية لإثبات سيادة المغرب الكاملة، بحجة غياب إدارة مغربية مباشرة ومنتظمة في المنطقة.

لكن هذا الاستنتاج يحمل مغالطة جوهرية، إذ أسقطت المحكمة مفهومًا أوربيًا حديثًا للسيادة على سياق تاريخي وجغرافي مختلف تمامًا. من العيوب المشينة في قرارها هو أنها أهملت بشكل غير عقلاني ومريب الفرق الزمني بين تاريخ إصدارها للحكم (1975) والمرحلة التاريخية التي يتناولها هذا الحكم؛ أي ما قبل 1884، تاريخ بداية الاستعمار الإسباني للمنطقة. فالعديد من الدول الإفريقية في القرن التاسع عشر، بما فيها المغرب، لم تكن تعتمد النموذج الحديث للدولة الوطنية ذات المؤسسات الإدارية الثابتة والحدود المرسومة بدقة. فالسيادة المغربية كانت تُمارس عبر نظام البيعة، حيث تربط القبائل ولاءها بالسلطان المغربي، وتدير شؤونها الداخلية عبر شيوخها، أو القياد في بعض الحالات، وفقًا لتقاليدها المحلية، في إطار وحدة سياسية واسعة.

الأكثر من ذلك، أن المحكمة تبنت معيارًا قانونيًا مستمدًا من السياق الأوروبي الحديث للدولة، دون مراعاة أن الدول التي خضعت للاستعمار لم تكن لديها فرصة لتطوير هياكلها الإدارية بنفس الشكل الذي كان في أوروبا. فالقانون الدولي صيغ في الأصل ليعالج النزاعات بين الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يأخذ بعين الاعتبار السياقات الخاصة بالدول المستعمرة، التي قسمتها القوى الاستعمارية وعبثت بحدودها وفق أجندات وتفاهمات بينية تخدم مصالحها فقط.

هذه الإشكالية لا تتعلق فقط بملف الصحراء، بل تمتد إلى عدد كبير من النزاعات الحدودية التي ورثتها الدول المستعمرة بعد استقلالها، والتي نشأت بسبب التقسيمات الاستعمارية التي لم تأخذ بعين الاعتبار الهياكل القبلية والتاريخية لهذه الدول. ولهذا، نجد أن أوروبا، بعد أن تجاوزت صراعاتها الداخلية وتوحدت اقتصاديًا، تسببت في خلق أزمات طويلة الأمد في مستعمراتها السابقة بسبب قرارات “قانونية” غير منصفة، استندت إلى منطق لا يعكس طبيعة هذه المجتمعات.

ازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي

إذا كانت محكمة العدل الأوربية تتبنى مبدأ تقرير المصير بمعزل عن الاعتبارات التاريخية، فلماذا لم تطبقه على قضايا مماثلة داخل أوروبا؟ ففي 2017، نظم إقليم كتالونيا استفتاءً ديمقراطيًا لتقرير المصير، وفازت فيه الأغلبية الساحقة بخيار الاستقلال بأكثر من 90%. لكن الحكومة الإسبانية قمعت الاستفتاء وسجنت القادة المنتخبين ديمقراطيًا، وسط دعم أوروبي لهذا القمع.

وهنا تبرز المفارقة: لماذا يتم دعم استفتاء الصحراء بينما يُمنع استفتاء كتالونيا، رغم أن الفارق بينهما أن الكتالونيين انتخبوا ممثليهم ديمقراطيًا بينما قادة البوليساريو لم يُنتخبوا أصلًا؟ بل إن البوليساريو لم يسمح يومًا بتنظيم انتخابات داخل المخيمات التي يسيطر عليها، ولم يمنح الصحراويين الحق في التعبير الحر عن موقفهم. إذن، لماذا يُطبّق هذا المنطق فقط عندما يتعلق الأمر بالصحراء المغربية؟ هذا التناقض يكشف أن المسألة ليست مسألة قانون دولي محايد، بل لعبة سياسية تحكمها المصالح والتحالفات.

التداعيات الإنسانية والقانونية للحكم الأوروبي

لا يمكن النظر إلى قرار محكمة العدل الأوروبية بمعزل عن التداعيات الإنسانية التي ترتبت على هذا النوع من الأحكام. فالمحكمة، بقرارها هذا، لا تساهم فقط في استمرار النزاع، بل تعطي أوهامًا زائفة لقادة البوليساريو، مما يؤدي إلى إدامة معاناة آلاف الصحراويين العالقين في مخيمات تندوف.

في هذه المخيمات، يعيش آلاف الأشخاص في ظروف مأساوية، حيث يتم استغلالهم كأداة سياسية، ويُمنع عنهم حق العودة أو حتى الإحصاء وفق القانون الدولي. ورغم أن المنظمات الحقوقية الدولية وثّقت انتهاكات جسيمة داخل هذه المخيمات، بما في ذلك قمع المعارضين وفرض سيطرة عسكرية جزائرية على السكان، إلا أن المجتمع الدولي يغض الطرف عن هذه الممارسات، بينما يضغط على المغرب الذي استثمر موارد هائلة في تنمية الصحراء وتحسين أوضاع سكانها.

المأزق الأخلاقي والقانوني

منذ كتابات الفيلسوف جيريمي بنثام، أصبح من المعروف أن القوانين لا تعكس دائمًا العدالة، بل قد تكون أحيانًا أدوات للظلم. جون ستيوارت ميل أيضًا ميّز بين الحقوق القانونية والحقوق الأخلاقية، مشيرًا إلى أن القانون قد يمنح حقوقًا لمن لا يستحقها، ويحرم آخرين من حقوقهم المشروعة.

بناءً على هذا الطرح، يمكن القول إن حكم محكمة العدل الأوربية، كما الحكم الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن الصحراء، لم يستند إلى منطق العدالة، بل إلى إطار قانوني يخدم مصالح معينة، متجاهلًا التداعيات الإنسانية والسياسية الناتجة عنه. بل إن أكبر دليل على هذا الظلم أن الدول الكبرى، رغم معرفتها بعدم إنصاف هذا الحكم، لم تقم بأي خطوات فعلية لتصحيحه، بل اكتفت بدعم محدود للمغرب لم يصل إلى حد تصحيح هذا الخلل القانوني.

يتضح إذًا أن الإشكالية القانونية لملف الصحراء لا تكمن فقط في مضمون الحكم الصادر عام 1975، بل أيضًا في المنهجية التي اعتمدتها المحكمة، والتي أسقطت معايير حديثة على سياق تاريخي مختلف، متجاهلة طبيعة الحكم والسيادة في تلك الفترة. كما أن النظام القانوني الدولي، الذي يُفترض أنه أُنشئ لتحقيق العدالة، قد فشل في التعامل مع هذه القضية وفق أسس عادلة، مما أدى إلى تكريس الظلم الاستعماري بدل تصحيحه. وقرار محكمة العدل الأوروبية الأخير ليس مجرد حكم قانوني، بل هو إعادة لسلسلة من الأحكام التي تجاهلت حقائق المنطقة، وساهمت في تأبيد الأزمة بدل حلها. فإلى متى سيظل القانون الدولي أداة تخدم بعض القوى بدل أن يكون أداة لتحقيق العدالة؟.

كاتب وباحث مغربي مقيم بمدينة أوتاوا بكندا



Source link

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات