لعل الصحافة المغربية من أكثر الأشياء التي تشبهنا نحن المغاربة، الذين نشكو الفساد في كل المجالات مع الاستعداد التام لممارسته إذا أتيحت الفرصة. الأغلبية اليوم تشكو من مرحلة بئيسة تعيشها الصحافة المغربية، غير أنه لا أحد يريد أن يحدد المسؤوليات أين تقع وعلى من تقع ومن السبب في هذا الواقع؟
ويمكن القول بضرس قاطع إن الصحافة في المغرب اليوم تعيش واحدة من أصعب المراحل التي مرت بها، فبعد أن تجاوزت مرحلة الصراع مع السلطة، التي كانت تريد فرض نموذج واحد، تعيش اليوم مرحلة أخطر من ذلك وهي مرحلة موسومة بـ”الصراع من أجل الوجود”.
يطرح البعض سؤالا: كيف نريد الصحافة اليوم بينما الواقع يوحي بأن السؤال الحقيقي هو كيف تبقى الصحافة على قيد الحياة؟ وهذا لا يعني أن سؤال الكيف ضرورة تاريخية مع الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت التفاهة بشكل كبير، لكن ينبغي الاعتراف بأن التفاهة تخترق كل أشكال التعبير، فهي موجودة في “الإعلام الجديد” كما هي موجودة في الإعلام التقليدي كما هو متعارف عليه، والشيء نفسه يذكر عن الجدية.
إذن لا يمكن أن نجعل من زوج التفاهة والجدية العنصر الحاسم في الجواب عن أزمة الصحافة، ولكن الجواب يتم عبر وضع المعايير ثم القوانين، لأن هذه الأخيرة إذا أصبحت أولوية ستكون مجرد طلاء فوق الصدإ، فالتفاهة موجودة في كل وقت، ولا يمكن القول إنها اليوم تتحكم في الصحافة، ولكن ينبغي أن نحدد معنى التفاهة، حتى “لا يصيح اللص مع الناس اقبضوا اللص”.
التفاهة والجدية قضية لا يمكن معالجتها بالقوانين، ولكن بتقوية الجاد من الصحافة ومنحه الفرصة للحياة والانتعاش، لأن القوانين لا يمكن أن تحارب التفاهة فكم من تافه لا يحيد قيد أنملة عن القانون، بل يعتلي سلم الهيمنة على القراء والمشاهدين والمتصفحين، فالأساس في العملية هو وضع القوانين وخضوع الجميع للقانون.
ويظهر أن كثيرا من الأمور تم الحسم فيها بادعاء معالجة إشكالات الصحافة والتصدي للأزمة التي تعيشها، لكن تم ذلك في سياق يوحي بأن من أقدم على ذلك يعارض التوجهات العامة للدستور، أسمى وثيقة يتحاكم إليها المغاربة، ونزع نحو الهيمنة بعيدا عن منطق التشاركية، الذي حكم ليس الدستور فقط بل كان أساس إنجازه، حيث تم الاستماع لجميع مكونات الشعب المغربي إلا من أبى ذلك.
لقد كان الصحفيون يُمنّون النفس بانتقال الإشراف من الوزارة الوصية على القطاع إلى التدبير الذاتي للقطاع، لكن مع كامل الأسف التجربة الأولى تعثرت في الطريق، وساهم الصحفيون في ذلك حيث التقت رغبات متعددة في وأد التجربة أو السلوك بها مسلكا ضيقا، وبدعوى انتظار تجويد القوانين تم تأجيل الانتخابات الخاصة بالمجلس الوطني للصحافة.
يبدو أنه لم تكن هناك رغبة في الاستمرار في التجربة وإلا كان التفكير في تغيير القوانين قبل انتهاء الولاية، لكن من أراد للتجربة الفشل ترك الأمور كما هي وعند الموعد المحدد دخل في تجربة التمديد والمؤقت، الذي أصبح دائما، فهو قد فاق نصف الولاية القانونية، وكان على الصحفيين رفض هذا الأمر بالمطلق.
لقد ترافع من أراد التمديد بحجة القوانين المعرقلة وضرورة تغيير القوانين، والمنطق كان يفرض تنظيم الانتخابات في موعدها وتنصيب مجلس جديد والشروع في مناقشة القوانين، فلو أن كل مؤسسة تحجّجت بالقوانين المنظمة ما تم تنظيم أي انتخابات بتاتا.
عندما تسمع من أفواه الصحفيين “اللهم الوزارة” فتعرف أن التجربة فشلت في تدبير شؤون الصحفيين، ناهيك عن إعطاء نموذج سيئ لمؤسسة منتخبة تحولت إلى لجنة معينة من قبل القطاع الوزاري، تلعب فقط دور إصدار البطاقات وإصدار الأحكام في حق الصحفيين وخلق التوتر بدل أن تكون عامل صناعة للإيجابية داخل المشهد.
أما ثاني عنصر ساهم في توتير الأجواء فهو الإقصاء الممنهج للمنظمات المهنية، ومحاولة وسم الصحافة بلون واحد، مع العلم أن المغرب قطع مع اللون الواحد منذ أن قطع مع فكرة الحزب الواحد عقب نيله الاستقلال، فالتعددية خيار مغربي، لكن الطريقة التي تدار بها شؤون الصحافة اليوم هي تفيد بأن هناك توجها نحو تمكين اللون الواحد في القطاع حتى يصبح وحده المخاطب في شأن يهم الجميع.
لقد ترتب عن هذا النهج الكثير من المصائب التي استيقظ الجميع بمن فيهم من ساهم فيها على أن الصحافة توجد في الحافة، ولم يبق لها سوى السقوط، لا قدر الله، في غياب للمنظمات المهنية أو في تغييب لها، حيث تم اتخاذ الكثير من القرارات دون العودة إلى المنظمات التي ينتظم فيها الصحفيون والناشرون، بما في ذلك تعيين اللجنة المؤقتة.
لقد اختارت الجهة التي تخطط لقتل الصحافة إغلاق باب الحوار إلا مع لون واحد، ومفاجأة الجميع بقرارات خطيرة تمس وجود الصحافة، وعلى رأسها المرسوم الوزاري ثم القرار الوزاري الخاص بالدعم، الذي تم تفصيله وفق مقاسات لا تخدم الصحافة بقدر ما تسعى لخدمة اللون الواحد.
ولا يعتقد واحد أنه بمنأى عن رياح السقوط، التي هبّت لتسقط الجميع، ولا يعتقد حتى من يفكر في ذلك ويسعى إليه من خارج الصحافة أنه سيحقق مبتغاه لأنه بالنتيجة ستخلو الساحة فعلا للتفاهة حينها.
لا ندري كيف يفكر من يسعى لقتل الصحافة؟
هل بصحافة اللون الواحد يمكن أن تواجه التحديات التي تواجه بلادنا، خصوصا وأن ضمن الضحايا ستكون الصحافة الجهوية وعلى رأسها الصحافة بالصحراء المغربية التي واجهت وتواجه فلول المرتزقة ودعاياتهم الكيدية؟
هل بصحافة اللون الواحد ستقدمون المغرب للعالم، بعدما تمكنت الدولة بقيادة جلالة الملك من رسم صورة البلد الحر والديمقراطي؟ هل بصحافة اللون الواحد ستستقبلون الفعاليات الدولية التي سينظمها المغرب؟
هل بصحافة اللون الواحد سترسخون الديمقراطية التي اختارها المغرب خيارا ثابتا؟ أم إن هناك من يعاكس الإرادة الملكية في بناء مجتمع موحد ومتعدد وفاعل؟