DR
مدة القراءة: 6′
يُعتبر خزف “الطاووس” من أكثر القطع الثمينة في كل منزل مغربي، حيث تتصدر الأطباق والصحون باللونين الأزرق والأحمر، والمزخرفة بالذهب، والتي تحمل زخارف الطاووس الرمزية، المشهد على الطاولات المغربية خلال شهر رمضان.
في المغرب، أصبح هذا الخزف جزءا لا يتجزأ من طقوس الطبخ، والاحتفالات، والديكور المنزلي. وتمتد جذوره إلى تاريخ أعمق، إذ تعود إلى التجارة بين أوروبا والمغرب والشرق الأقصى.
الخزف الصيني في العالم الإسلامي
قبل ظهور “الطاووس” بشكله الحديث، كان الخزف الشرقي قد اكتسب شهرة واسعة عالميا. وكان الخزف الصيني، على وجه الخصوص، يحظى بتقدير كبير في العالم الإسلامي منذ العصر العباسي، حيث كان مفضلا لدى الحكام والأثرياء.
في المغرب، كان الخزف الصيني معروفا بالفعل في زمن الرحالة الشهير ابن بطوطة، الذي أشار إليه خلال زيارته للصين في القرن الرابع عشر. غير أن الهوس الحقيقي بالخزف الصيني كان واضحا بين العثمانيين، الذين جمعوا كميات هائلة منه، مفضلين القطع المزينة بالأزرق والأبيض، وذلك بسبب الحظر الإسلامي على الأكل من الأواني المعدنية النفيسة.
يعتقد الباحثان نادية أرزيني وستيفن فيرنوا، في دراستهما “الخزف الإيماري في المغرب“، المنشورة في “Muqarnas: An Annual on the Visual Culture of the Islamic World”، أن التأثير العثماني ربما كان الدافع الأول وراء اقتناء المغاربة للخزف الشرقي.
ويشير الباحثان إلى أن رحلة الحج وفّرت للمسؤولين والتجار المغاربة فرصة للاطلاع على الثقافة العثمانية، كما لعبت التبادلات الدبلوماسية دورا مهما، حيث دخل المغرب، خلال العهدين السعدي والعلوي، في تجارة مباشرة مع العثمانيين شملت الخزف.
وهذا ما يفسر شهادة السفير المغربي أبو الحسن التمكروتي، الذي قاد سفارة إلى السلطان العثماني مراد الثالث، حيث وصف، خلال مأدبة ملكية في قصر البديع بمراكش، تقديم الطعام على “أطباق مذهبة من مالقة وبلنسية، وأطباق رائعة من تركيا والهند [على الأرجح من الشرق الأقصى].
دور التجارة الأوروبية في إدخال الخزف إلى المغرب
موقع المغرب الجغرافي سهل التجارة البحرية الأوروبية، التي بدأت في القرن السادس عشر وأدخلت الخزف الصيني عبر التجار البرتغاليين. فقد احتلت البرتغال العديد من الموانئ المغربية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وربما وصلت منتجات الشرق الأقصى إلى المغرب عبر هذه القنوات.
تشير الأدلة الأثرية إلى ذلك، حيث كشفت الحفريات في القصر الصغير، وهو ميناء كان تحت السيطرة البرتغالية بين 1458 و1550، عن وجود خزف صيني يعود إلى أوائل القرن السادس عشر، وفقًا لأرزيني وفيرنوا.
إلى جانب التأثير العثماني والتجارة البرتغالية مع الصين واليابان، فإن خزف “الطاووس” المعروف اليوم ليس من أصل صيني، بل ياباني. يُعرف باسم “إيماري”، نسبةً إلى ميناء إيماري الذي كان يُصدر منه، وهو نمط من الخزف الياباني الذي أنتج في مقاطعة هيدزن، شمال غرب كيوشو.
وصل الخزف الإيماري إلى المغرب في أوائل القرن الثامن عشر، بالتزامن مع توسع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع أوروبا، خصوصا إنجلترا وهولندا. لعب القناصل الإنجليز والهولنديون، لا سيما في تطوان وسلا، دورا مهما في تسهيل هذه التجارة.
خلال القرن السابع عشر، كانت شركة الهند الشرقية الهولندية نشطة في تجارة الخزف الشرقي، حيث كان الهولنديون التجار الأوروبيين الوحيدين المسموح لهم بدخول اليابان، مما ساهم في انتشار خزف إيماري في مختلف المناطق، ومنها المغرب.
Tétouan à la fin du XIXe siècle. / Ph. Nadia Erzini et Stephen Vernoitتطوان في أواخر القرن التاسع عشر. / تصوير نادية إرزيني وستيفن فيرنو
هوس المغاربة بخزف إيماري
بحلول القرن الثامن عشر، انتشرت تجارة الخزف الإيماري في المغرب بشكل واسع. وتشير المصادر إلى أن بعثة دبلوماسية بريطانية إلى السلطان إسماعيل عام 1721 قدمت هدية تضمنت ثريا، أقمشة، سكر، وصندوقًا من الخزف الصيني.
كما تم تقديم صندوق كبير من الخزف لحاكم تطوان عام 1727، بالإضافة إلى صندوق آخر احتوى على جرار خزفية مملوءة بالحلوى قُدمت للسلطان.
بعض هذه القطع لا تزال محفوظة حتى اليوم، حيث تحتوي مجموعات خاصة في تطوان على أطباق إيماري كبيرة من أوائل القرن الثامن عشر. إحدى هذه الصحون، بقطر 53.5 سم، تتميز بحواف مائلة وزخارف مقسمة إلى ثلاثة لوحات، وهي مشابهة تمامًا لصحون موجودة في مجموعة الملكة إليزابيث الثانية.
وفقًا للبحث، لم يكن مصطلح “الطاووس” جديدًا على المغاربة، فقد كان خزف إيماري يرتبط بالطائر الأسطوري، الذي غالبا ما كان يُصور على هذه الأواني.
Chargers of Japanese Imari early 18th century, Tetuane from private collection. / Ph. Nadia Erzini Stephen Vernoit أطباق كبيرة من “إيماري” الياباني من أوائل القرن الثامن عشر، تطوان، مجموعة خاصة. / تصوير نادية إرزيني وستيفن فيرنو
تظهر الإشارات إلى “الطاووس” في الوثائق المغربية منذ القرن التاسع عشر. وتوثق سجلات عائلة أرزيني، التي كانت تستورد البضائع من جبل طارق إلى الداخل المغربي، وكذلك أرشيف عائلة كوركوس اليهودية في الصويرة، دخول الخزف عبر موانئ تطوان والصويرة، ثم نقله إلى فاس ومراكش.
كان خزف “الطاووس” مطلوبا بشكل خاص من قبل السلطان والعائلة المالكة والمسؤولين الكبار. وتشير السجلات إلى أن الوزير محمد المختار الجامعي طلب ستة أكواب طاووس فاخرة من تاجر يهودي في الصويرة عام 1864.
طبسيل الطاووس والشاي
يُعد ارتباط الطاووس بالشاي في المغرب واحدا من الجوانب المثيرة للاهتمام في تاريخه، حيث لم يكن مجرد عنصر فاخر اقتنته العائلات الثرية والمسؤولون، بل كان جزءًا لا يتجزأ من ازدهار تجارة الشاي في القرن التاسع عشر.
تشير سجلات عائلة إرزيني من عام 1855-1856 إلى استيراد عشرات أكواب الشاي من الشرق الأقصى، بما في ذلك مجموعة خاصة أُشتريت لأحد الوزراء. كما ورد في وثائق عام 1864 أن محمد المختار الجامعي، الذي أصبح لاحقًا الوزير الأعظم، طلب ستة أكواب طاوس فائقة الجودة من التاجر اليهودي أبراهام كوركوس في الصويرة. كانت هذه الواردات تشمل أطقمًا من الأكواب، الأطباق، السلطانيات، والجرار المزودة بأغطية.
لكن ما يجعل قصة طاوس أكثر إثارة هو علاقته غير المتوقعة بتجارة الشاي. فمع تزايد الطلب على الشاي في المغرب خلال القرن التاسع عشر، زادت أيضا واردات خزف إيماري. ويرجع ذلك إلى أن السفن القادمة من الشرق الأقصى كانت تحمل الصناديق الخزفية أسفل حاويات الشاي، حيث كان الخزف مادة عديمة الرائحة، ما يساعد في الحفاظ على نكهة الشاي وحمايته من التلف الناتج عن الرطوبة.
ظل خزف إيماري الصيني، إلى جانب تقليده، يحظى بمكانة مرموقة بين المغاربة، حتى في القرن العشرين، حيث أصبحت الخزائن الزجاجية في المنازل المغربية أماكن عرض لأطقم الطاووس الفاخرة. كما ظل استخدامه أمرا ضروريا في تجهيزات الموائد المغربية خلال المناسبات الخاصة، مثل حفلات الزفاف.
واليوم، يتم إنتاج نسخ مقلدة من خزف إيماري بكميات كبيرة في كل من الصين والمغرب، وغالبا ما تحمل تصميم الطاووس وحتى كلمة “طاووس” منقوشة على ظهر الأطباق، مما يؤكد استمرار تأثير هذا التراث العريق في الثقافة المغربية.