قليلا من حكمة العقل، قليلا من الجرأة!
آراء أخرى
لقراءة رأي جماعة العدل والإحسان (بيان مجلس الإرشاد حول تعديل مدونة الأسرة، 28 دجنبر 2024) في المقترحات التي قدمت من لدن وزير الأوقاف ووزير العدل خلال اللقاء التواصلي 24 دجنبر 2023، لابد من الرجوع إلى الوثيقة التي قامت بنشرها في ينار 2024، حول تصورها لمدونة الأسرة على إثر تشكيل الهيئة التي كلفت بإعداد مسودة مراجعتها وشروعها في الانصات للقوى الحية بالبلاد. هذه الوثيقة التي حملت عنوان ” القضايا التفصيلية التي تهم مدونة الأسرة”. وهذا دليل على أن الجماعة تريد بذلك المشاركة في النقاش العمومي المفتوح حول المدونة التي ما فتئت الحركة النسائية تنبه إلى ما تطرحه من مشاكل عملية وما تحمله من مواد تمييزية ضد النساء غير مقبولة. وأن التواصل بمخرجاتها الأساسية في هذه الظرفية أمر منتظر وواجب ليس فقط لأن بلادنا مساءلة أمام المنتظم الأممي الحقوقي الذي ليس له أية سلطة على الدول، ليس كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات المالية الدولية، وبلادنا ملتزمة وعليها الوفاء بالتزاماتها، وهذا أيضا أحد مطالبنا كحركة نسائية، ولكنها أولا لأنها مساءلة على التزامها لتعزيز المساواة أمام النساء والمجتمع المغربي برمته.
ركزت وثيقة القضايا التفصيلية على ثمان قضايا خلافية اعتبرتها ذات أولوية كمشاركة منها في الحوار حول المدونة بناء على مرجعيتها. وهي كما وردت فيها على التوالي، تزويج القاصر، تدبير الأموال المكتسبة بين الزوجين، تعدد الزوجات، الطلاق والتطليق، استلحاق مقطوع النسب بأبيه غير الشرعي، الحضانة، النيابة الشرعية والإرث. وقبل ذلك يصبح الرجوع إلى الوثيقة السياسية (الدائرة السياسية، 2023)، من الزاوية النسائية، عملية حاسمة، على اعتبارها عرضا سياسيا للجماعة، لفهم والوقوف عند فرادة/ابتكارية أو حدود الأفق العدلي في التغيير بهذا البلد من أجل تعزيز الديمقراطية والمساواة وعقلنة المقاربة الدينية لتوافق عصرها وما وصل إليه العلم والمعرفة البشريين. لنجيب عن سؤال هل يمكن أن يحقق تصور الجماعة للدولة والمجتمع الإنصافَ والمساواة بين النساء والرجال ببلادنا؟ هل يمكن التعويل عليها كحليف في ذلك، أم انها تشكل عقبة ومناهضا لحقوق النساء وللمساواة بين الجنسين؟ هناك من الحركة النسائية من يعتبر الجواب محسوما، ولا طائلة من وراء هذه المحاولة. ومع ذلك دعنا نقف على الأشياء عن قرب لأن الإشكاليات النسائية ليس لها موطن واحد، وجبهات صراعها متعددة ومعاركها الصغير كما الاستراتيجي منها في كل مكان.
إن هذه المقالة لا تهدف إلى قراءة المشروع السياسي للجماعة برمته، ولكنها سوف تركز على ما جاء فيه يمس العلاقات الاجتماعية بين الجنسين وحقوق النساء، وإن كانت هذه الإشكالية وثيقة الصلة بالمشروع برمته، إذ لا يوجد مجال في الحياة العامة والخاصة لا يهم النساء.
لا يكفي أن يكون المشروع مناهضا للاستبداد ليعم العدل في المجتمع
الدين في حد ذاته ليس عاملا من عوامل التأخر
كتب شكيب أرسلان في أوج الصراع مع القوى الاستعمارية في ثلاثينيات القرن العشرين كتابا عنونه ” لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ ومن أهم ما أكد عليه هو أن الدين في حد ذاته ليس عاملا من عوامل التأخر، على العكس من ذلك قد يصبح عاملا من عوامل النهضة والتقدم لقدرته التعبوية الكبيرة. وفي تاريخنا الإسلامي وتجارب الأمم الأخرى ما يؤكد ذلك. لكن اليوم يمعن المسلمون بأقوالهم وأفعالهم على تأكيد تخلف الإسلام. الإسلام السياسي الجاد عليه أن يجيب عن الأسئلة الوطنية الداخلية بانفتاح على الأفق الكوني المتقدم علينا بسنوات ضوئية، وعلى مرآته تنكشف عيوبنا شئنا أم أبينا! ولكن وأيضا أن يجيب عن سؤال ” هل الإسلام لا يستقيم إلا إذا ظلت النساء أقل اعتبارا من الرجال؟ هل الإسلام ينهار إذا انهارت قوامة الرجل؟ وهل انغلاق المسلمين على ذواتهم هو الذي سيضمن استمرارية تدينهم؟
شكيب أرسلان شخص أسباب تأخر المسلمين في ستة مستويات. اعتبر (1) العلم الناقص أخطر من الجهل البسيط، وهو ما أصبح منتشرا اليوم وبشراسة مع تمكن شبكات التواصل الاجتماعي من الحيوات اليومية للناس؛ و (2) فساد الأمراء مع (3) تزلف العلماء، غير أن ما نراه اليوم في الحالة المغربية علاقة بالمدونة هو هروب العلماء إلى الوراء بشكل مبالغ فيه حتى لا يتهموا بالتزلف(4) الجبن والهلع، و (5) اليأس والقنوط، و (6) الجمود على القديم، هذه المعضلة القديمة التي لاتزال تحيى بيننا وبما، تجبر الناس ليتوجهوا نحو العروض الأكثر جاذبية لحياتهم تاركين الجبناء والقانطين اليائسين في جمودهم على القديم قولا لا فعلا في معظم الأحيان. فما شخصه شكيب أرسلان من أمراض المجتمعات المسلمة لا يزال ينخر الجسم المغربي اليوم.
وقبل الخوض في ردهات رؤية جماعة العدل والإحسان حول حقوق النساء والعلاقات الاجتماعية بين الجنسين، لابد من التأكيد على أن الغاية من هذا العمل لا تدخل ضمن مقاربة التطاحن، ولكنها تروم الاعتراف أولا بمحاولات الاجتهاد للنأي ببلدنا عن أي أذى، والاقتراب من إمكانيات الفعل المشترك، إن وجدت، من أجل حقوق النساء ومساواتهن بالرجال من حيث القيمة الرمزية الإنسانية وفي كل مجالات الحياة الأخرى، بغض النظر عن أوضاعهن الاجتماعية، اعتبارا من أن الإسلام يتيح إمكانيات كبيرة لذلك، نقدر أنها لا تزال تحتاج لجرأة أكبر في إعمال حكمة العقل لاستخراج ما تستبطنه من قيم المساواة والعدل والإنصاف، وفي تاريخ المسلمين الكثير من الأمثلة التي عملت على ذلك، أولها قراءة ابن رشد لدور النساء في المجتمع الإسلامي في القرن الثاني عشر، وجاء بعده رواد النهضة العرب المسلمين ابتداء من القرن التاسع عشر. وهؤلاء كلهم تقلدوا مناصب ذات الصلة بالدين كبيرة.
بين الوثيقة السياسية، والرأي حول إصلاح مدونة الأسرة والبلاغ حول مقترحات المجلس العلمي الأعلى، هل هناك انسجام في الموقف، وهل هناك اعتبار للتحولات التي تعرفها العلاقات الاجتماعية بين الجنسين، وهل هناك اعمال لحكمة العقل؟ أم أن الأمر لا يعدو عجعجة لغوية تخفي الجمود على القديم، أي استمرار الاعتقاد ب”النموذج الأصلي” L’archétype، “قوامة الرجال على النساء”؟ هذا الأركتيب لم يعد مقبولا حتى بالنسبة للنسائيات féminismes الإسلامية، لأن القوامة لا يمكن أن تبنى على مجرد جنس إنسان، وكيف يمكن أن تكون كذلك؟ وهذه من المفاهيم التي على الإسلام السياسي تفكيكها لضخ هواء نقي لهويتنا الإسلامية والوطنية حتى نساهم من أعلى وليس من أسفل في سبيل إنعاش الإنسية المحتضرة اليوم. إنها مسؤولية كبيرة علينا مع أحرار العالم المستميتين على القيم والمبادئ الإنسانية، وهم موجودون في كل مكان، عمل طوفان الأقصى على إعادة الروح لها، بل على انبعاثها القوي. وهذا ما لا نراه في منتجات الجماعة حول المدونة ومكانة النساء.
ملاحظات عامة حول العرض السياسي للجماعة
الملاحظة الأولى: العرض الاقتصادي والاجتماعي لا يقطع مع معضلة التقاطبية المجتمعية
إن هذا العرض السياسي يأتي حسب الوثيقة ليساهم بشكل مسؤول من أجل إيقاف الانهيار الذي يتهدد بلدنا، بمقاربة لا تقطع مع مقتضيات الدولة العصرية، بل على العكس نراها منخرطة فيما تراكَم من التجربة المغربية ومرصِّدة لها، بل مؤسَّسة كليا على معجمها لضمان التواصل كما تقول الوثيقة. لا تتجاوز أفق النظام الرأسمالي بالخصوص على المستوى الاقتصادي، ولا بالنسبة لبناء الدولة اللامركزية. لا يشكل عندها أي مشكل القطاع الخاص حتى في قطاعات اجتماعية أساسية، كالتعليم مثلا، التي كانت من مهام الدولة الوطنية حتى عند الدول الرأسمالية، وهذا من شأنه أن يذكي التقاطب المجتمعي مهما طالبنا بمدرسة عمومية جيدة، فسوف لن يقف ذلك في وجه الفوارق التي سينتجها التعليم المتقاطب (خاص/ عام). فالنظام الرأسمالي بطبيعته نهم شره يقضي على الحي واليابس، فلا تكفي معه أوصاف الاقتصاد الأخضر، أو التضامني، أو الإنساني وغيرها من النعوت التلطيفية (الاطلاع على كتاب نانسي فريزCannibal Capitalism,2022). يَستغل، كما تقول نانسي فريزر، ليس فحسب قوة العمل المأجور، ولكن وأيضا قوة العمل غير المرئي وغير المؤدى عنه الذي تقوم به النساء داخل الأسر وفي الحقول والصناعة التقليدية عموما. واليوم نشاهد بأم أعيننا التحول الشرس الذي يعرفه هذا النظام نحو رأسمالية المراقبة (الاطلاع على كتاب شوشانا زوبوف The Age of Surveillance Capitalism 2019) التي تستنزف التجربة البشرية وغير البشرية، وتستعبد الإنسان وتركز السلطة بين بدي حفنة من الأوليغارشية.
ومن الملاحظ أيضا تَقابل الوثيقة من حيث المواضيع مع ما جاء في الدستور، وتوافق في أحيان كثيرة، مع بعض الاستثناءات تخص منهجية إعداد الدستور ونظام الدولة الذي لم يُعطَ فيه توصيف كما هو متعارف عليه في الأدبيات السياسية.
إننا حقيقة في حاجة ماسة إلى الاجتهاد والابتكار في هذا الباب، وهذا مطروح على عاتق كل من يتوق إلى تفكيك ذهنية التحكم في الإنسان، وفي النساء، وفي الطبيعة من أجل الإخضاع.
الملاحظة الثانية: رسوب المنهج النظري في امتحان التطبيق:
“تسعى جماعة العدل والإحسان للإسهام إلى جانب غيرها في تحقيق المعنى الكلي للعبادة فرديا وجماعيا ومجتمعيا، من دون احتكار للإسلام، ولا فرض لفهمها له على الغير، ولا ادعاء على قدرتها وحدها على حل معضلات المجتمع والعالم من دون إسهامات باقي التصورات على قاعدة الحوار البناء والتعاون المثمر الهادف. وتنطلق الجماعة من الإسلام مرجعية، لكن من منظور منهاج تجديدي لا يرتهن للاجتهادات المظروفة بزمانها ومكانها، وبإرادة جهادية تسعى لإقامة الدين في نفسها وفي المجتمع، عبر الدعوة السلمية الرفيقة، والحراك المجتمعي المدني على جميع أصعدة الفعل الإنساني، تربية وتفكيرا وتثقيفا وتنويرا، وتعليما، وتنظيرا وتدافعا.”
هذا المقتطف من الوثيقة السياسية يحدد معالم منهجية عمل الجماعة والتي يمكن تلخيصها في ثلاثة مستويات، الأول الايمان بالاختلاف في الفهم والرأي في الدين الإسلامي، والثاني الإيمان بالنسبية في الفعل السياسي العام، والثالث الايمان بالحراك السلمي. وعلى مستوى المرجعية، الإسلام غير المرتهن لاجتهادات أزمنة وأمكنة أخرى. فالجماعة بهذه المواصفات تشكل إمكانا للعمل المشترك من أجل إحقاق حقوق النساء وعلى رأسها المساواة بين الجنسين. فهي تزاوج ما بين حكمة السماء وحكمة الأرض كما يوضحه المقتطف الآتي:
“تنطلق المرجعية التنظيرية لجماعة العدل والإحسان من المنهاج النبوي بما هو آلة للعلم ومرشد للعمل، بقراءة متجددة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكتاب العالم والحكمة البشرية.”
حتى الان، المسائل عامة ومنسجمة تطرح أرضية قد تفيد الغرض فعلا للتقدم في العلاقات مع النساء وحقوقهن. لكن الشيطان كما يقال يوجد دائما في التفاصيل. والتفاصيل ترجمت في الوثيقة السياسية في العديد من المستويات، كما في وثيقة الجماعة الخاصة برأيها في مدونة الأسرة وتصريحها حول مخرجات الهيئات التي عهد لها بإعداد مسودة إصلاحها. وهو ما سأعود لتفاصيله فيما سيأتي، ولكن يمكن القول مسبقا إن المفارقة كبيرة بين المحددات المنهجية النظرية والعديد من القضايا المطروحة اليوم للنقاش العمومي حول مدونة الأسرة وعلى رأسها أكبر حقوق النساء ألا وهو حقها في المساواة بدون تحفظ. ويمكن أيضا القول إن رأي الجماعة لا يختلف كثيرا عن المجلس العلمي الأعلى فيما اجتهد فيه (الإرث، التعدد، الاعتراف بعمل الرعاية الذي تقوم به النساء) وفاقه في اعترافه بالخبرة الجينية من أجل إثبات النسب.
الملاحظة الثالثة: القيم الإسلامية، القيم الإنسانية: هل من تعارض؟
“ويقتضي العمل على ترسيخ القيم الإسلامية والإنسانية ضرورة تجديد الرؤى وإحكام التصورات التي تراعي متغيرات الواقع وتحولات المجتمع دون إهدار المقاصد الكبرى، ودون تردد في القبول بفضائل الحكمة الإنسانية وما أثلته من قيم مثلى. كما يقتضي ذلك بناء رؤية متحررة من الكثير من قيود التجربة التاريخية، وقراءة فاحصة وناقدة لاجتهادات من سبقونا في ضوء القيم والمقاصد الكلية للإسلام.”
فكيف تفهم الجماعة هذا الاتصال المبتغى بين القيم الإسلامية والحكمة البشرية والتفاعل مع الواقع الإنساني؟ وما هي هذه المقاصد الكبرى للإسلام التي يخاف هدرها؟ وهل قوامة الرجال على النساء من هذه المقاصد الكبرى؟ الأصل هو الإسلام ومن أجل بلوغ قيمه التي تعلو على كل القيم الأخرى، فالتربية تصبح المفتاح الأساسي للتدرج في تنزيل مبادئ الإسلام وقيمه ومقاصده حفظا للحرية والأمن والعدل والسلم الأهلي والتراحم الإنساني (ص.23).
وقد علمتنا التجربة أن تمثلاتنا للعلاقات الاجتماعية بين النساء والرجال هي المحك الأصيل الذي يكشف حقيقة معنى الكلام وخلفيات الخطاب المستعمل. فإذا أردت معرفة المقصود، فعليك باستعمال مقياس تطبيقه على النساء، كسؤال ما هي قيود التجربة التاريخية الإسلامية بالنسبة لحقوق النساء؟ وأين تتجلى القراءة الفاحصة والناقدة لاجتهادات من سبقونا؟ وإلى أية قيم ومقاصد إسلامية نلجأ؟ وما إلى غير ذلك من الأسئلة حول ما جاءت به الوثيقة السياسية.
يتغيى المشروع العدلي بناء مجتمع العمران الأخوي عوض عمران الصراع، فأي مكانة للأختية به؟ وأن المواطَنة في هذا المجتمع تتأسس على القيم الإسلامية والإنسانية، فما هي هذه القيم؟ أوَ ليست القيم الإنسانية تمتح من منابع كل الحضارات بما فيها المسلمة؟ وما هو المضمون والمعنى الذي تعطيه الجماعة لشعاراتها الثلاثة؟ في السياسة، شعار ” حرية وعدل وحكم المؤسسات”، وفي الاقتصاد والاجتماع، “شعار ” عدالة وتكافل وتنمية مستدامة”، وفي المجتمع، شعار ” كرامة وتضامن وتربية متوازنة”. هذه الأسئلة ستجد القارئة والقارئ أجوبة عنها فيما سيأتي إما بشكل مباشر أو غير مباشر.
الملاحظة الرابعة: حرية المعتقد وحرية التدين بشرط ألا يخل بالأمن الروحي والسلم الأهلي للمجتمع: حرية الخفافيش!
“تمكين الإنسان من حقه الفطري والطبيعي في معرفة خالقه والإيمان به والسعي نحو التطلع إلى الفضيلة، مع تمكينه من حرية المعتقد وحرية التدين بما لا يخل بالأمن الروحي والسلم الأهلي للمجتمع، كما يتطلب الحفاظ على الكيانات الجمعية في ظل تموجات العولمة وتحدياتها الجسيمة المهددة باختفاء كل الحدود والحواجز وتهاوي كل المنتظمات التي يقوم عليها الاجتماع الإنساني.”
إن الحرية من المبادئ الأساسية بالنسبة للتقدم في حقوق النساء، ولذلك يعنينا تمثل الجماعة له بشكل كبير. هذه الفقرة تسجل موقف الجماعة الإيجابي من حرية المعتقد والدين، أي أن تعتقد ما تشاء من المعتقدات، وأن تحمل ما تشاء من الديانات، وهذا أمر جاء به الدستور المغربي جزئيا، إذ نص في الفصل 3 منه على أن ” الإسلام دين الدولة والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”. هذه العبارة المبهمة عوضت الصيغة الأولى القريبة من رأي الجماعة، التي قدمتها لجنة إعداد مسودة الدستور سنة 2011، والتي اعترض عليها حزب العدالة والتنمية آنذاك.
يجب أولا أن نسجل أهمية هذا الموقف بالنسبة للسلم الاجتماعي وبناء مجتمع التعدد، وثانيا، أن نؤكد أن النقاش العمومي ببلادنا يتقدم كيفما كانت الأحوال وذلك صمام أمان حرية التعبير واحترام قواعد الفضاء العام. لماذا التأكيد على هذه المسألة علاقة بحرية التعبير؟ لأننا عشنا فيما سبق حالات التضييق على حرية التعبير ليس من لدن الدولة فحسب، ولكن وأيضا من تعبيرات “مدنية” للإسلام السياسي التي نشرت في بداية التسعينات على الخصوص وامتد ذلك لسنوات، ثقافة التكفير والتخويف التي أثرت بطريقة أو أخرى على حرية التعبير بالخصوص علاقة بالمساواة بين الجنسين، وقد تجلى ذلك في محطتي عريضة المليون توقيع من أجل المساواة التي توجت برفع القداسة عن مدونة الأحوال الشخصية، والثانية مع الخطة الوطنية للتنمية مع بداية الألفية الثانية. أن تعتبر الجماعة حرية المعتقد كمكون للمجتمع الذي تطمح لبنائه، فهذا يعبر عن نضج واحترام لمكونات المجتمع المغربي المتنوعة في بناء رؤية دامجة تتعايش فيها كل الأفكار.
لكن بقي هذا الموقف مبهما عندما تم شرط حرية المعتقد “بما لا يخل بالأمن الروحي والسلم الأهلي للمجتمع”. هل يعني ذلك أن مجرد التعبير عن معتقد ما مخالف للإسلام السني مثلا في الفضاء العام مخلا بالأمن الروحي؟ كما تقول به بعض الحساسيات الأخرى من الإسلام السياسي ببلادنا، كممارسة هذه الحرية في الفضاء الخاص فقط. وفي هذا الموقف حدود رفيعة بين ثقافة محاكم التفتيش، والممارسة الحرة العادية في الفضاء العام، الشرط الأساسي للحرية. وإذا كان الأمر كذلك، ستصبح حرية المعتقد هذه مجرد حرية خفافيش لا تتحرك إلا في الظلام. وفي هذا ابتعاد عن الثقافة المؤسِّسة للمجتمعات الحداثية الديمقراطية.
يتبع..