الأحد, مارس 9, 2025
Google search engine
الرئيسيةالشامل المغربيالعاقل ...تاريخ مختصر للجنس البشري(7)

العاقل …تاريخ مختصر للجنس البشري(7)


 

أمينة المستاري 

 

ضحايا الثورة 

 

يُظهر التاريخ العديد من الأمثلة على سوء التقدير، ومن بينها ما يتعلق بالثورة الزراعية، كما يوضح يوفال نوح هراري. ويطرح هذا الأخير احتمالًا مفاده أن البشر ربما تعمدوا تعقيد حياتهم لتحقيق أهداف معينة، وهو أحد التفسيرات التي يناقشها في كتاباته.

غالبًا ما تُفسَّر التطورات التاريخية استنادًا إلى عوامل اقتصادية وسكانية، لكن في العصور الحديثة، لم يعد بالإمكان تجاهل البعد الثقافي والعقائدي، نظرًا لوجود وثائق مكتوبة تفرض أخذها في الاعتبار. أما عند دراسة الفترات الأقدم، فتعتمد الأبحاث أساسًا على الأدلة الأثرية وحدها.

يستشهد الكاتب باكتشافات أثرية في تركيا وأماكن أخرى، حيث عُثر على أعمدة منحوتة مرتبطة بمجتمعات الصيد والجمع، وأخرى تعود إلى المجتمعات الزراعية. ويرجح أن هذه المنشآت لم تكن سكنية، بل ربما شُيدت لأغراض ثقافية أو دينية غير واضحة، وقد تكون ثمرة تعاون بين مجموعات مختلفة على مدى سنوات طويلة.

 يؤكد هراري أن الإنسان العاقل دخل في ما يشبه “صفقة شيطانية” مع القمح، حيث تحول من صياد للحيوانات البرية إلى ممارس للصيد الانتقائي. بدلًا من الصيد العشوائي، بدأ البشر في اختيار الفرائس بعناية، فكانوا يصطادون الخراف الضعيفة أو العدوانية، ثم حاصروها في مساحات محددة، مما أدى تدريجيًا إلى ظهور سلالات أكثر خضوعًا.

يضيف المؤلف فرضية أخرى، تشير إلى أن الصيادين ربما احتفظوا ببعض الحيوانات الصغيرة خلال فترات الوفرة لذبحها لاحقًا عند الحاجة، ثم تطورت هذه العادة إلى تربية القطيع، ما أدى إلى استئناسه ليصبح مصدرًا للحوم، والحليب، والصوف، بل ولعب أدوارًا إضافية في النقل والحرث، مما ساهم في نشوء مجتمعات رعوية جديدة.

حسب هراري، فانتشار الإنسان حول العالم ترافق مع انتشار حيواناته المستأنسة، التي تضاعفت أعدادها إلى مليارات، ما يعد نجاحًا تطوريًا من منظور بيولوجي. لكنه يشير إلى أن هذا النجاح لم يكن مصحوبًا برفاهية هذه الكائنات، بل على العكس، فقد خضعت لممارسات قاسية، مثل التحكم في تكاثرها وحريتها، كما في صناعة الألبان حيث تُجبر الأبقار على الإنتاج المستمر. ومع ذلك، لم تكن ظروف جميع الحيوانات سيئة، فبعضها حظي بمعاملة خاصة، كما هو الحال مع حصان الإمبراطور الروماني كاليغولا، الذي كاد يُعيَّن “قنصلًا“.

 ويشير الكاتب إلى أن الرعاة أظهروا تعاطفًا تجاه حيواناتهم، مما انعكس في الثقافة البشرية، حيث شبّه الملوك والأنبياء أنفسهم بالرعاة باعتبارهم حماةً لشعوبهم. ويرى أن التناقض بين النجاح التطوري والمعاناة الفردية يعد من أبرز الدروس المستفادة من الثورة الزراعية، مما يستدعي التفكير في تأثير نجاح الأنواع على أفرادها.

 تمثل الثورة الزراعية نقطة تحول رئيسية في تاريخ البشرية، حيث اختلفت الآراء حول تأثيرها؛ فهناك من يراها تقدمًا نحو الاستقرار والرخاء، بينما يعتبرها آخرون انحرافًا عن الطبيعة أدى إلى الطمع والاستغلال.

 ويشير هراري إلى أن الزراعة أحدثت تغيرًا ديموغرافيًا هائلًا، حيث انخفض عدد الصيادين وجامعي الثمار من 8 ملايين إلى نحو 2 مليون فقط، بينما ارتفع عدد المزارعين إلى 250 مليونًا، بعد أن استقروا في مستوطنات دائمة. ومع هذا التحول، انتقل البشر من حياة الترحال إلى العيش في منازل ضيقة، مما أثر على العلاقات الاجتماعية، حيث أصبحت العائلة الصغيرة محور الحياة، على عكس الصيادين الذين اعتبروا بيئتهم بأكملها موطنًا لهم.

كما أدى الانتقال إلى الزراعة إلى تقليص المساحات الطبيعية وزيادة التدخل البشري في البيئة، حيث بدأ الإنسان في إزالة النباتات الضارة ومكافحة الحشرات التي تهدد محاصيله. ورغم انتشار الزراعة، إلا أنها لم تغطِ سوى 2% من مساحة الأرض، بسبب العوامل المناخية والجغرافية. ومع مرور الزمن، أصبح التخلي عن هذا النمط شبه مستحيل، بعد أن استثمر الإنسان في الأراضي والمحاصيل والممتلكات.

 ويؤكد هراري أن التحول من الصيد إلى الزراعة لم يكن مجرد تغيير في نمط العيش، بل تطلب تغييرًا في طريقة التفكير أيضًا. فبينما اعتمد الصيادون على الطبيعة بشكل مباشر دون قلق مستقبلي، اضطر المزارعون إلى التخطيط للمواسم المقبلة، مما عزز لديهم القلق والخوف من الجوع والكوارث. ومع ذلك، لم يحقق العمل الزراعي أمنًا اقتصاديًا للجميع، إذ استحوذت النخب الحاكمة على معظم الفائض الغذائي، تاركة المزارعين يعملون بأجر ضئيل. وهكذا، كما يصف هراري، أصبح التاريخ “شيئًا يفعله القليلون بينما يعمل الجميع في الحقول“.

 ساهم الفائض الغذائي وتطور وسائل النقل في ازدياد أعداد السكان، مما أدى إلى نشوء المدن والممالك. لكن الحروب لم تكن نتيجة نقص الغذاء، إذ تزعم الثورة الفرنسية مثلًا محامون أثرياء وليس فلاحون جائعون. ويرى هراري أن الصراعات نشأت بسبب الخلافات حول توزيع الموارد، إذ لم تعزز الثورة الزراعية غريزة التعاون الجماعي كما كان الحال في المجتمعات الصيادة. وبدلًا من ذلك، لجأ البشر إلى اختراع الأساطير والقصص حول الآلهة والأوطان والشركات، لخلق روابط اجتماعية تحافظ على استقرار المجتمعات الزراعية الجديدة.





Source link

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات