أمينة المستاري
تاريخ المال: من المقايضة إلى العملات الرقمية
في العصور القديمة، لم يكن لدى الصيادين والجامعين أي شكل من أشكال المال، بل كانوا يعتمدون على الصيد وتبادل السلع والخدمات وفق نظام التزامات متبادلة. كان التبادل المباشر وسيلة محدودة للحصول على الاحتياجات، لكن مع الثورة الزراعية، بدأت القرى في تحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصاديًا، ومع ذلك لم يكن هناك تخصص مهني بدوام كامل. ومع توسع المدن ونشوء الممالك، تطورت البنية التحتية للنقل، مما أتاح فرصًا جديدة للتخصص. أدى ذلك إلى ظهور أعمال بدوام كامل مثل صناعة الأحذية والطب والنجارة والكهانة والمحاماة، كما بدأت القرى المتخصصة في إنتاج معين بتبادل سلعها مع المستوطنات الأخرى. ومع ذلك، نشأت مشكلة كيفية إدارة عمليات التبادل بين المتخصصين.
يرى الكاتب أن المقايضة لم تكن فعالة إلا ضمن نطاق محدود، إذ تتطلب أن يكون لكل طرف ما يحتاجه الآخر، مما جعلها غير صالحة كأساس لاقتصاد معقد. حاولت بعض المجتمعات تطبيق أنظمة مقايضة مركزية، حيث يتم جمع المنتجات وتوزيعها وفقًا للحاجة، لكن هذه التجارب، كما في الاتحاد السوفيتي، فشلت بسبب استغلال النظام، حيث أصبح الأفراد يعملون بأقل جهد ممكن بينما يسعون للحصول على أكبر قدر من الموارد. الحل الذي أثبت نجاحه في تسهيل التبادل بين المتخصصين كان ابتكار المال.
الأصداف والسجائر كعملات
لم يكن اختراع المال يعتمد على تطور تقني، بل كان قفزة عقلية خلقت واقعًا جمعيًا في المخيلة المشتركة للناس. فالمال، أيًا كان شكله، هو وسيلة متفق عليها لتمثيل قيمة الأشياء وتسهيل التبادل. قبل ظهور العملات المعدنية، استخدمت المجتمعات أشياء مختلفة كوسيلة للدفع، مثل الأصداف، الماشية، الحبوب، الملح، والسندات، وظلت بعض هذه الوسائل قيد الاستخدام حتى أوائل القرن العشرين.
حتى في بيئات مغلقة مثل السجون ومعسكرات الأسرى، يقول الكاتب، لعبت السجائر دور العملة، حيث أصبحت وسيلة معترف بها للتبادل. ومع ذلك، أصبحت العملات المعدنية والأوراق النقدية نادرة في عصرنا الحالي، إذ إن أكثر من 90% من الأموال موجودة في الحسابات المصرفية ويتم تداولها إلكترونيًا عبر أنظمة مالية حديثة، مما يجعلها أكثر كفاءة من النقود الورقية والمعدنية من حيث الوزن وسهولة النقل والتتبع.
لكي تعمل الأنظمة الاقتصادية المعقدة، لابد من وجود نوع من المال يسهل التبادل، حيث لم يعد على صانع الأحذية أن يبحث عن مزارع يبادله الأحذية بالتفاح، بل بات بإمكانه بيع الأحذية مقابل المال ثم شراء ما يحتاجه. المال، إذن، هو أداة عالمية للتبادل، تتيح للناس تحويل السلع إلى أخرى، كما تمكنهم من تخزين الثروة ونقلها.
على سبيل المثال، كان تخزين الحبوب لفترات طويلة يشكل تحديًا بسبب الحاجة إلى مستودعات وحراسة، بينما وفر المال وسيلة أكثر كفاءة لتخزين القيمة. كما أنه حل مشكلة نقل الثروة، حيث يمكن لشخص يرغب في الهجرة بيع ممتلكاته مقابل المال، الذي يسهل حمله مقارنة بالأراضي أو المواشي.
المال والثقة
القيمة الحقيقية للمال ليست مادية، بل نفسية واجتماعية، إذ يعتمد على الثقة المتبادلة بين الناس. فالأصداف أو الأوراق النقدية لا تمتلك قيمة ذاتية، لكن الجميع يثق في أنه يمكن استبدالها بسلع وخدمات. ولهذا، ترتبط الأنظمة المالية ارتباطًا وثيقًا بالأنظمة السياسية والاجتماعية، حيث تستمد العملات قيمتها من الثقة في المؤسسات التي تصدرها.
يورد هراري على سبيل المثال، بلاد الرافدين القديمة، فقد استخدم “شعير السومريين” كعملة لدفع الرواتب وشراء السلع، وقد اكتسب قيمته لأنه كان ضروريًا للحياة. لاحقًا، ظهرت العملات المعدنية، مثل الشيكل الفضي، الذي لم يكن له قيمة ذاتية لكنه كان أكثر كفاءة في التبادل.
في عام 640 ق.م، قام الملك ألياتس من ليديا بإصدار أولى العملات المعدنية، المصنوعة من الذهب أو الفضة، والمختومة بعلامة رسمية تضمن قيمتها. وقد تفوقت العملات المعدنية على السبائك غير الممهورة، حيث كان من الصعب التأكد من نقاء السبائك في كل معاملة، بينما شكلت العلامة الرسمية ضمانًا سياسيًا لقيمتها، مما جعل تزوير العملة جريمة خطيرة تعاقب بأشد العقوبات.
انتشار العملات ونظام الذهب
في الإمبراطورية الرومانية، كانت العملات تحمل صورة الإمبراطور، مما عزز الثقة بها حتى خارج حدود روما، حيث قلدت الشعوب الأخرى الديناروس الروماني. وعندما ظهر الإسلام، تم تعريب الاسم ليصبح “الدينار”، وهو ما زال مستخدمًا في بعض الدول حتى اليوم. في الصين، اعتمد النظام النقدي على العملات البرونزية والسبائك غير الممهورة، لكن المبادئ الأساسية للنقد كانت مشتركة عالميًا.
مع نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، انتشر نظام النقد المبني على الذهب والفضة، مما أدى إلى ظهور عملات مثل الباوند البريطاني والدولار الأمريكي، وتوحيد العالم اقتصاديًا عبر شبكة تجارية مترابطة. استخدم الأوروبيون كميات هائلة من الذهب والفضة لشراء السلع من آسيا، مما عزز النمو الاقتصادي العالمي رغم اختلاف الثقافات.
رغم أن الفلاسفة والأنبياء انتقدوا المال واعتبروه أصل الشرور، يرى الكاتب أنه يمثل ذروة التسامح البشري، إذ إنه أكثر انفتاحًا من اللغة والقوانين والعادات. فهو نظام ثقة عالمي يمكّن الغرباء من التعاون والتبادل بفعالية، مما جعله أحد أعظم الابتكارات البشرية.