خلق البشر أنظمة متخيلة وسنّوا قوانين لتعويض النقص في غرائزهم الفطرية التي لم تكن كافية للحفاظ على شبكات التعاون الجماعي. لكن هذه الأنظمة لم تكن محايدة أو عادلة، بل كرّست التمييز والتراتبية الاجتماعية، فقسمت الناس إلى طبقات وهمية، كما فعل قانون حمورابي، وكما فعل النظام الأمريكي عام 1776 الذي رسّخ الفوارق بين الرجل والمرأة، وبين البيض والسود، بل وأقرّ بعدم المساواة في الإرث.
يشير المؤلف إلى أن مفهوم الحرية كان يحمل دلالات مختلفة في الماضي، إذ دعم النظام الأمريكي التراتبية في توزيع الثروة، فبينما اعتقد البعض أنها هبة إلهية، رآها آخرون تجسيدًا لقوانين طبيعية أبدية تكافئ المستحق وتعاقب المتخاذل. وهكذا، تسعى كل تراتبية متخيلة إلى إنكار أصولها البشرية وتدّعي أنها نظام طبيعي حتمي. فحمورابي اعتبرها قضاءً من الآلهة، وأرسطو جادل بأن العبودية طبيعة فطرية، حيث وُلد البعض ليكونوا عبيدًا وآخرون ليكونوا أحرارًا.
يرى المؤلف أن الأنظمة الهرمية هي محض اختراع بشري، فالتقسيمات الطبقية، مثل الفصل بين طائفة البراهمة والشودرا في الهند، ليست سوى نتاج القوانين والمعايير التي اخترعها البشر قبل 3000 عام. وعلى عكس ما زعمه أرسطو، فإن هذه القوانين هي التي جعلت من البشر عبيدًا وأحرارًا. صحيح أن هناك اختلافات بيولوجية بين البيض والسود، لكن لا علاقة لها بالذكاء أو الأخلاق.
البعض قد يعتبر أن تراتبيته الاجتماعية عادلة، في حين يرى أن تراتبيات الآخرين مبنية على أسس واهية، كالفصل العنصري بين السود والبيض، لكنه يقبل بتراتبية الغني والفقير وكأنها أمر طبيعي. والحقيقة، كما يقول هراري، أن الأغنياء عادة ما يولدون في أسر ثرية، والفقراء يظلون كذلك لأنهم يولدون في بيئات فقيرة، إلى جانب وجود مجتمعات تعاني من أشكال تمييز أكثر قسوة.
في جميع المجتمعات، أنشأ البشر أنظمة تُصنّف الأفراد ضمن فئات متخيلة، فخلقت تفاوتًا في المكانة السياسية والقانونية والاجتماعية، مما سهّل تنظيم العلاقات بين الناس ومكّن الغرباء من التعامل مع بعضهم دون الحاجة إلى معرفة شخصية مسبقة.
القدرات الطبيعية والحلقة المفرغة للتراتبية
يرى هراري أن الفروق الطبيعية تؤثر على الترتيبات الاجتماعية، لكنها غالبًا ما تتشكل من خلال التراتبيات المتخيلة بطريقتين:
القدرات تحتاج إلى رعاية وتطوير، كما يتضح في قصة هاري بوتر الذي لم يكتشف مواهبه السحرية إلا بعد أن أتيح له التعلّم.
النجاح لا يعتمد فقط على القدرات، فمن ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة لا يحظون بنفس الفرص، حتى لو امتلكوا المهارات نفسها، بسبب القيود القانونية والعوائق غير المرئية التي تفرضها الأنظمة الاقتصادية.
كل المجتمعات تقوم على تراتبيات متخيلة تختلف وفقًا للعوامل الدينية أو العرقية، وهي وليدة ظروف تاريخية عارضة ثم ترسخت عبر الأجيال. يضرب الكاتب مثالًا على النظام الطبقي الهندوسي، حيث فرض الغزاة الهندو-آريون قبل 3000 عام تقسيمًا طبقيًا جعلهم في موقع القيادة، بينما وُضع السكان المحليون في مرتبة الخدم والعبيد. وسرعان ما أصبح هذا التمييز جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الدينية الهندوسية، حيث رُبطت مفاهيم الطهارة والنجاسة بالاختلاط بين الطبقات، مما أدى إلى تعميق الفجوة الطبقية. ومع الوقت، تفككت الفئات الأربع الكبرى إلى 3000 مجموعة فرعية، لكل منها قواعدها الصارمة التي تحدد المهنة، والطعام، ومكان العيش.
حتى مع ظهور مجموعات اجتماعية جديدة، كان لابد من الاعتراف بها داخل النظام الطبقي حتى تحصل على وضع قانوني، بينما حُرم المنبوذون من أي اعتراف، وظلوا معزولين عن بقية المجتمع. وعلى الرغم من جهود الحكومة الديمقراطية الحديثة للقضاء على التمييز الطبقي، فإن هذا الإرث لا يزال حاضرًا في الهند اليوم.
التراتبية العنصرية في أمريكا
لم تقتصر التراتبية الاجتماعية على الهند، بل امتدت إلى الولايات المتحدة، حيث استورد الأوروبيون العبيد من إفريقيا للعمل في المزارع والمناجم، بسبب قرب القارة وتكاليف النقل المنخفضة، بالإضافة إلى مناعة الأفارقة ضد الأمراض المدارية. وهكذا، تشكّل مجتمع من طبقة حاكمة بيضاء وطبقة مستعبدة من السود.
لتبرير هذا التقسيم، استُخدمت مبررات دينية وعلمية، حيث زعم اللاهوتيون أن الأفارقة ينحدرون من نسل حام ابن نوح، الملعون من والده، بينما اعتبر علماء الأحياء أن السود أقل ذكاءً، ووصفهم الأطباء بأنهم يعيشون في القذارة ويجلبون الأمراض.
ومع إلغاء العبودية في القرن التاسع عشر، استمر التمييز عبر قوانين الفصل العنصري والعادات الاجتماعية. ورغم التغيير الذي شهدته الولايات المتحدة بفعل الهجرة والثورة الصناعية، فإن وصمة العبودية ظلت قائمة، وأدى استمرار الفقر وقلة التعليم بين السود إلى تأكيد التحيزات ضدهم، مما عمّق الحلقة المفرغة للتمييز.
قوانين جيم كرو وحلقة التمييز
حتى بعد تحرير العبيد، فرضت قوانين “جيم كرو” نظامًا عنصريًا يحرم السود من التصويت، ويمنعهم من دخول مدارس البيض أو حتى التسوق في متاجرهم. واستُخدمت مزاعم علمية لتبرير هذا التمييز، مثل الادعاء بأن السود أقل تعليمًا أو أكثر إجرامًا، دون الإشارة إلى أن هذه النتائج كانت نتيجة مباشرة للعنصرية والتمييز الممنهج. بل وصل الأمر إلى حد اعتبار السود الذين سعوا إلى التعليم أشخاصًا غير طبيعيين، كما حدث مع كلينون كينج عام 1958، حين وُصف بالجنون لمجرد محاولته دخول الجامعة.
كما امتد التمييز إلى المعايير الثقافية، حيث أصبحت مقاييس الجمال الأمريكية قائمة على خصائص العرق الأبيض. وهكذا، استمرت التراتبية العنصرية عبر الأجيال، رغم أنها نشأت نتيجة حادثة تاريخية عابرة، ووجدت لنفسها مبررات دينية وعلمية لإدامتها.
يؤكد هراري أن دراسة التاريخ ضرورية لفهم التراتبية الاجتماعية، إذ لا يمكن تفسير التعقيدات الطبقية في الهند أو الصراعات العنصرية في أمريكا من منظور بيولوجي فقط، بل يجب النظر إلى العوامل التاريخية والاجتماعية التي ساهمت في تشكيلها واستمرارها.
The post العاقل…تاريخ مختصر للجنس البشري(11) appeared first on الجريدة 24.