كان المنعطف في لبنان بوقف إطلاق النار مع إسرائيل، وابتدأ المنحدر من حلب وذللت الأشواكَ الوطنيةُ السورية، وانسحاباتُ الجيش السوري وعِيُّ الأذرع الإيرانية. ما أجمل استعادة الغوطة خضرتَها الوحدوية وبهاءَها العربي. وكان أن سقط نظام الأسد في أيام معدودات. كتبت تدوينة أقول فيها: “اندحر الأسد، لترفرف الحمائم”. وكانت التعليقات على هذه الجملة البسيطة، والمكونة من أربع كلمات دالة على نمط من التفكير، ما يزال يتكرس في واقعنا لدى فئات واسعة من المثقفين وأشباههم. إنها رؤية تجسد التشاؤم والسوداوية المهيمنة في واقعا العربي المهزوم والمتأزم، والتي باتت في غياب أي أفق حقيقي للتغيير، ترى الهزيمة قدرا مقدورا، ومن يرى غير ذلك، أو حتى يتمنى أن يكون نقيضه، فهو أحمق، أو جاهل، أو عاجز عن فهم الواقع وتحليله بطريقة صائبة وملائمة. وصرت وكأني أرى في تلك الرؤية الصورة الحقيقية للعربي التي لا يستطيع منها فكاكا، مثله في ذلك مثل العبد الذي لا يريد الحرية، أو التابع الذي لا يطلب غير تحسين ظروف تبعيته.
آراء أخرى
لقد استبدل أحدهم الحمائم بالغربان المقبلة، وقدم آخر صورة رجلين ملتحيين بزي الإرهابيين، مؤكدا أن هذا ما سيقع في سوريا. وأدان غيرهما المعارضة السورية متهما إياها بكونها جاءت على ظهر دبابة ولا خير فيها. وهكذا كانت بعض التعليقات تسير في هذا الاتجاه، بينما حرصت تعليقات أخرى على الحماس لسقوط الأسد، ونظامه.
من مزايا طوفان الأقصى أنه أرانا الكثير من الظواهر المعبرة عن واقع العقل والمتخيل العربيين، وما يتميزان به من ضيق أفق، وعجز عن الفهم، بله التفسير أو التغيير. ما وقع مع سقوط الأسد رأيناه في تضارب المواقف والتصريحات والتحليلات مع اغتيال هنية، وقادة حزب الله، واستشهاد السنوار، وغيرها من الأحداث الكبرى التي عرفت مع تداعيات طوفان الأقصى الذي غير الثوابت، وأدى إلى ضرورة تغيير المنظور الذي ننظر به إلى الأشياء. فلماذا لم ير هؤلاء المتشائمون والسوداويون في اندحار الأسد فرح الشعب السوري برمته بزوال الطاغية، وإطلاق سراح آلاف المسجونين لعدة عقود من أخطر السجون في العالم، وفي عودة ملايين المهجرين من كل أصقاع الأرض؟ أيمكن لأي بديل كيفما كان نوعه، وديكتاتوريته، أن يقوم بما قام نظام البعث طوال كل تاريخه؟ ألم يدمر هذا النظام سوريا والشعب السوري وعرضه للتشرد في الشوارع حاملا هويته ينتظر الصدقة؟
كانت الجملة التي كثر الوقوف عليها وضدها كثيرا تقول ببساطة وبلاغة عادية، انحدر الأسد (الشخص/ الحيوان المفترس)، خلت منه المدينة أو الغابة، وصار بإمكان الحمام أن يعود إلى سابق عهده في الطيران في الأجواء، وللشعب المهجر أن يعود إلى وطنه. كانت الجملة الأولى تعبيرا عن حدث يقع في الحاضر فعلا. أما الجملة الثانية فكانت طلبا ودعاء لحصول فعل إيجابي في المستقبل. سألني أحد الأصدقاء أي قراءة سيميائية أوحت لك بهذا الموقف؟ قلت له: قراءة الفعل الذي وقع، والأمل في أن يكون لفائدة الشعب السوري، أما بالنسبة لما سيقع فلكل حادث حديث. تعود تلك السوداوية المثقفية في رأيي إلى عدة عوامل ألخصها هنا في: استباق التأويل، وليست عندنا معطيات عما يجري فعلا من جهة، ومن جهة ثانية، إسقاط تصوراتنا وأهوائنا على ما يقع ما دمنا نراه لا يصب في مصلحتنا. يتكامل المقومان معا لأن هذا الإسقاط وليد ذاك الاستباق، والعكس صحيح. لكن إسقاط ما نتشبث به من منطلقات على الواقع هو السائد. فنحن لا نقرأ ما يجري أمامنا، ولكن ما نعتقده هو أساس تأويلنا له. رأت مجموعة من التعليقات أن ما قامت به المعارضة السورية مآله إلى الفشل، وكان اتخاذ ما وقع في تونس وليبيا والعراق ومصر، نموذجا لما سيقع في سوريا من لدن هذه السوداوية. إن الفشل ولد الفشل فصار إسقاطه على أي تجربة مختلفة هو الحقيقة الأبدية. وليبرر بعضهم الآخر هذا الفشل والمصير المنتظر اتهام المعارضة السورية بالإرهاب، فهي سليلة “القاعدة” و”داعش” والتيارات التكفيرية، ورأى آخرون أن المعارضة تسيرها ويدعمها التدخل الأمريكي والصهيوني والتركي. واضح من خلال هذه المواقف أنها ذات خلفيات طائفية، وعرقية، وعلمانية، وكأني بها ترى أن الواقع الذي كانت تعيشه سوريا تحت نظام الأسد لا يمكن أن يكون إلا أكثر رأفة وشفقة وتقدما وازدهارا، مما ستعيشه مع هؤلاء الإرهابيين الذي وصلوا إلى دمشق على الدبابات؟
كانت مآلات الربيع العربي مختلفة بين الدول العربية، اختفى فيها بعض الرؤساء وهرب بعضهم الآخر. وبشار كان الاستثناء الذي لم يهرب ولم يختف، فكان أن دفع السوريين إلى الهرب خارج البلاد، وبعضهم الآخر أخفاه وأعدمه في سجنه الرهيب. بعد ثلاثة عشر عاما يستعيد الربيع العربي في سوريا قوته، فكانت الاستفادة من تجربة عسكرية وأيديولوجية، والانتقال منها إلى رؤية واقعية للعالم، وكان توحيد كل الفصائل، وكان ما عرفه الربيع العربي درسا مهما، وكان الانتصار مدويا، وسقوط دمشق بتلك الطريقة دالا على رغبة الكل في التخلص من كابوس جثم على صدر سوريا عدة عقود. وأخيرا هرب الأسد. هل أقول: اندحر الأسد، لترفرف الحمائم في المسجد الأموي.