بقلم نورالدين زاوش
رئيس جمعية المعرفة أوّلا
يعلم الجميع أن الكبرانات لا يعيشون أفضل أيامهم ولا حتى أسوأها؛ بل يعيشون، بلا شك، آخرها؛ لهذا السبب الوجيه ارتأيتُ أن أستمع لخطاب الرئيس “تبون” من مبدئه إلى منتهاه، خصوصا وأن لا أحد بمقدوره أن يجزم بأن خطاب الرئيس هذا لن يكون آخر خطاب له؛ حتى وإن بدت على محياه ملامح رئيس مودِّع، وبدت عيناه مغرغرتان بالدموع مثلما لم تَبدُ من قبل، وبدا وجهه مكفهرا شاحبا وكأنه يساق إلى نار جهنم.
ابتدأ اللقاء بعزف النشيد الوطني تمجيدا لروح خمسة ملاين و630 ألف شهيد، وعهدة العدد على الراوي، وترديد ،لأول مرة في التاريخ، كلماته المؤثرة من لدن فرقة مُدَرَّبة بصوت جهوري تقشعر له الأبدان؛ خصوصا المقطع الذي يقول فيه:
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب *** وطويناه كما يُطوى الكتاب
يا فرنسا إنَّ ذا يوم الحساب *** فاستعدِّي وخذي منا الجواب
وتساءلتُ حينها بيني وبين نفسي:
عن أيِّ حساب يتحدث هؤلاء القوم، وقبل شهور فقط، كان الرئيس “تبون” يأخذ الرئيس الفرنسي بالقُبل والأحضان، حتى ظن من ليس في قلبه مرض أنهما سيعقدان قران زواج؟ وأيُّ حساب هذا والشعب الجزائري يُقَبل يد الرئيس “ماكرون” في وضح النهار، كلما حل هذا الأخير ببلده الثاني، الجزائر؟
لقد أرغد “تبون” وأزبد في خطابه الذي دام أطول من مباراة في كرة القدم، وذكَّر فرنسا بجريمة التجارب النووية التي أقيمت على “أرضه”؛ لكنه تحاشى أن يَذكر بأن حكومة “المجاهدين” أنذاك من أعطت فرنسا الضوء الأخضر لإقامة هذه التجارب التي استمرت لغاية السبعينات؛ بل كان هذا هو الثمن الحقيقي لاقتطاع الصحراء الشرقية من المملكة المغربية الشريفة وإلحاقها بالجزائر، بعدما رفض محمد الخامس طلب فرنسا في الموضوع.
من أجل هذه الحقيقة الثابتة التي كتبها المؤرخون ووثقها التاريخ، وذكَّر بها الكاتب “بوعلام صنصال” في كتبه، ثارت ثائرة “تبون” الغيور على “وطنه”، وتحول من رئيس دولة إلى مجرد “ذبابة إلكترونية” حقيرة تسب الرجل وتلعنه، وتتهمه في هويته وتشكك في نسبه، بلا وازع أخلاقي أو رادع قانوني، وحوّل بذلك مجلس “الأمة” بغرفتيه إلى ساحة من ساحات الوسائط الاجتماعية، حيث ينتشر القيل والقال وكثرة السؤال.
إن الخوف الشديد الذي بات يسري في أوصال نظام العسكر، والرعب الذي بدأ يَدِبُّ إلى قلوبهم الرهيفة، هما السبب الحقيقي الذي جعل الدمية “تبون” تستجمع قواها المتلاشية، وتتحدث لأول مرة عن جماجم “الشهداء” المعروضة في المتاحف الفرنسية، والتي قدّر عددَها الذبابة “تبون” بكونها تتعدى 500 جمجمة، في الوقت الذي اعترف فيه بأن بلاده لم تتمكن، منذ الاستقلال إلى اليوم، سوى من استرداد 24 جمجمة؛ ربما هذا ما تقصده كلمات النشيد الوطني: “يا فرنسا جاء يوم الحساب”، أيْ حساب عدد الجماجم المسترجعة من الجماجم المتبقية في متاحف باريس.