إذا كان العالم المعاصر تحكمه مقولة “من يملك المعلومة يملك السلطة”، فإن العالم في المستقبل القريب سوف تحكمه مقولة أخرى “من يملك الذكاء الاصطناعي يملك العالم”. كما أن الحروب الحالية حول الحدود والطاقة والمواد الأولية، ستتحول إلى حروب حول الذكاء الاصطناعي. هذا الأخير تغلغل في كل مناحي الحياة، ويتوسع حضوره في كل التخصصات: الطب-المحاماة-العلوم السياسية-التعليم…وغيرها من المجالات. فما هو هذا “الغول” الذي اسمه الذكاء الاصطناعي؟
بداية أشير إلى الخلط الشائع بين الروبوت والذكاء الاصطناعي. فكثير من الناس يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي هو الروبوتات. والحقيقة هي أن الروبوت هو فقط أحد تجليات الذكاء الاصطناعي وأبرز تمظهراته، من هنا جاء الخلط بين الاثنين.
الذكاء الاصطناعي هو برمجيات تُحاكي من جهة الحواس الخمس التي يتميز بها الإنسان، ومن جهة أخرى تُحاكي قدراته العقلية. فالبشر يتوفر على خمس حواس: البصر-السمع-الشم-الذوق واللمس. برمجيات الذكاء الاصطناعي، تحاول محاكاة هذه الحواس. وكلما تطورت هذه البرمجيات، كلما صار الذكاء الاصطناعي متفوقا على قدرات الإنسان في هذا المجال.
أما بخصوص القدرات العقلية التي يتميز بها الإنسان، فإن برمجيات الذكاء الاصطناعي، عرفت تطورات جعلتها متفوقة بشكل كبير على العقل الإنساني. فما يقوم به هذا العقل في سنوات، يمكن أن ينجزه الذكاء الاصطناعي في ثوان معدودات. وكمثال على ذلك نورد برمجيات “شات جي بي تي” و”جيميني” التي بإمكانها في ثوان معدودة، إنجاز كتاب من مئات الصفحات في موضوع محدد. وهو العمل الذي يتطلب من العقل البشري، شهورا من البحث والعمل الجاد والمتواصل.
نورد كذلك التجربة التي قامت بها الشركة الأمريكية “جنيرال إلكتريك”. استدعت الشركة 10 أطباء من أكبر الخبراء في مجال تخصصهم، وعرضت عليهم تشخيص مرض سرطان الثدي، من خلال بيانات الفحوصات والتحاليل والأشعة الخاصة بامرأة مصابة بهذا المرض. وعرضت الشركة نفس البيانات على برمجيات الذكاء الاصطناعي الذي طورته الشركة الأمريكية.
كانت النتيجة مذهلة، بحيث اكتشف الجميع أن تشخيص الذكاء الاصطناعي، كان أكثر دقة وأكثر عمقا من تشخيص هؤلاء الخبراء الأكثر دراية في العالم. هذا المثال، يحيلنا إلى الحديث عن المستويات الأربعة للذكاء الاصطناعي: التوصيف-التشخيص-التوقع وأخيرا كيفية حدوث التوقعات. وهي المستويات التي تحدثت عنها مؤسس جارتنر (Gartner.Inc) الأمريكية التي تُعتبر من أكبر المؤسسات المُتابِعة للتكنولوجيا الحديثة.
باختصار شديد نقول إن التوصيف هو قدرة الذكاء الاصطناعي على تحديد المظاهر العامة للمشكل. مثلا يمكن للذكاء الاصطناعي توصيف حالة الشخص: لونه أصفر-درجة الحرارة مرتفعة-الضغط تجاوز المسموح به…فيخلص إلى أن هذا الشخص يعكس مظاهر المرض دون تحديد طبيعته. وفي المجال التجاري، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدد لأي منتوج جديد، المناطق التي تتوفر فيها شروط الترويج الجيد لهذا المنتوج على صعيد كل دول العالم. وذلك باستعمال مقاييس محددة مرتبط بالسن والجنس والذوق والموروث الثقافي وغيرها من الاختيارات الأخرى كميل الشعوب للون معين، أو شكل، أو رائحة، أو حساسية للبرد والحرارة….وهو ما يُعرف في التجارة بالاستهداف.
التشخيص يعكس قدرات الذكاء الاصطناعي على تشخيص المشكل بدقة تفوق بكثير قدرات الإنسان. ففي مجال الطب، وهو مثال يقربنا من الفكرة أكثر، اعتماد الذكاء الاصطناعي على بيانات المريض، وقدرته على تحليل كل المعطيات منذ الولادة حتى المرض، يجعله قادرا على إعطاء تشخيص أدق وأعمق من تشخيص الإنسان. فالذكاء الاصطناعي قادر على تحليل بيانات كثيرة ومتعددة، لا يستطيع العقل البشري التعامل معها.
أما التوقع فهو قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل البيانات، وإعطاء توقعاته المستقبلية، بناء على تجارب سابقة، وعلى استقراء التوجه المستقبلي للمعطيات. إنه الجواب عن السؤال: ماذا سيحدث؟ ونعود لمجال الطب كمثال لتقريب الصورة أكثر. تحليل الذكاء الاصطناعي لبيانات المريض بدقة وعمق، يجعله قادرا على توقع الأمراض التي يمكن أن يصاب بها هذا المريض في المستقبل، كالسكتة القلبية أو الجلطة الدماغية أو مرض السكري إلى غير ذلك.
المستوى الرابع، وهو ما يمكن أن يثير جنون العالم، يتعلق بكيفية حدوث تلك التوقعات. وهو المستوى الذي تصفه مؤسسة جارتنر “الذكاء التخليقي”. تطوَّرَ الذكاء الاصطناعي حتى أصبح قادرا على إعطاء معطيات أكثر دقة، يمكنها شرح كيفية حدوث تلك التوقعات وتحديد الأضرار الجانبية إن كانت هناك أضرار. وكلما تطورت برمجيات الذكاء الاصطناعي، كلما فاجأنا بقدرته على تحديد المستقبل. لتقريب الصورة أكثر من ذهننا، أورد برمجيات “شات جي بي تي” التي يمكنها معرفة الشخص المتحدِّث وبالتالي إعطائه الأجوبة التي تلائمه، أو التي يرغب فيها.
من أجل فهمٍ جيد لهذه المستويات الأربعة للذكاء الاصطناعي، نورد مثال الكومبيوتر الذي يُجيب على تساؤلات الإنسان، سواء عبر الكتابة أو عبر الكلام. فالكمبيوتر يبدأ أولا بفهم الكلمات (مرحلة الوصف)، ثم يستوعب مضمون الكلمات (مرحلة التشخيص)، فيشرع في إعطاء التوقعات الممكنة (مرحلة التوقع)، وأخيرا يعطيك أفضل الحلول المناسبة للشخص المعني (مرحلة كيفية حدوث التوقعات).
ختاما نقول إن الذكاء الاصطناعي أصبح بإمكانه التأثير حتى على تاريخ البشرية. فمنهجية المؤرخين تقوم على أساس تقسيم التاريخ إلى مراحل. نفس الشيء مع الذكاء الاصطناعي، الذي فتح المجال لتاريخ جديد يشمل ثلاث مراحل:
–مرحلة التاريخ الإنساني-الإنساني: وهي مرحة يعتمد فيها الإنسان على حواسه وقدراته العقلية في تدبير عالمه.
-مرحلة الإنسان والآلة: وهي مرحلة يعتمد فيها الإنسان على الذكاء الاصطناعي للرفع من قدراته. هذه المرحلة يستعين فيها الإنسان على الآلة في الأعمال التي لا يستطيع القيام بها. وهي المرحلة التي يعيش جيلنا أطوارها حاليا.
-مرحلة تفوق الذكاء الاصطناعي على القدرات الإنسانية: وهي المرحلة التي يكون فيها الإنسان مساعدا فقط للآلة، أي أن الآلة تقوم بكل شيء وتستعين بالإنسان فقط في الأمور القليلة التي لا تستطيع القيام بها. مرحلة يكون فيها الذكاء الاصطناعي قد بلغ مستوى من الذكاء، جعله يتوفق على قدرات العقل الإنساني. هذه المرحلة، ستعيشها الأجيال القادمة، وربما تعيش فيها كل ما جاء في أفلام الخيال العلمي من واقع تسيطر فيه الآلة على الإنسان.
هذا الأمر، يتطابق مع تقرير منتدى دافوس الاقتصادي، جاء فيه أن الأطفال الذين أُلحقوا بالتعليم الأساسي في 2016، سيبلغون سوق العمل في حدود 2035 وسيشتغلون في وظائف 65% منهما لا نعرف عنها الآن أي شيء.
فهل هذا يعني أن الإنسانية لا تدري ما يمكن أن يقوم به الذكاء الاصطناعي؟ الجواب هو نعم، خاصة إذا علمنا أن العلم يحاول تجاوز قوانين الفيزياء، بخرق حدودها المتمثلة في الذرة كأصغر حجم في الكون، وذلك باستعمال أحد مكونات هذه الذرة أي “الفوتون”.
دون الدخول في التفاصيل، أكتفي بالقول إن الذكاء الاصطناعي يقوم بوظائفه بالاعتماد أساسا على “الترونزتسور” الذي يشتغل بمنظومة ثنائية 0 و1 أي اتصال أو انقطاع الكهرباء. الآن يتحدث العلم على منظومة 1024 بدل 0 و1. إنها الفيزياء الكَمِّية (Physique quantique) التي ستتجاوز القانون الحالي للفيزياء، لتفتح العالم على ما يمكن أن يدركه العقل البشري.
أهلا بنا في عالم الكومبيوتر الذي يمكنه إنجاز المستحيل في أقل من 200 ثانية حسب ما ذهب إليه العملاق غوغل.