بعد تتبعنا خلال الحلقات الثلاث الماضية صيرورة تطور الحركة النسائية المغربية في الأربعينات ثم الثمانينات، وقبل ذلك واقع المرأة المغربية تاريخياً، سننكب خلال هذه الحلقة الأخيرة على واقع الحركة اليوم، إذ تواجهها العديد من التحديات بعضها فكري متعلق بالعلاقة بين الحركة المغربية و”النسوية الغربية”، والآخر تنظيمي متعلق بتجديد النُخب.
ونجحت الحركة من أجل حقوق النساء في توحيد جهودها وتدبير تنوعها وتجميع نضالاتها وتوجيهها نحو أهداف محددة وواضحة، وكانت جمعيات حقوق الإنسان هي الجمعيات التي تميزت بالسبق في مجال التحكم في مناهج التخطيط الاستراتيجي، والمرافعة وتحسيس فاعلي المجتمع المدني حول أهدافها، تقول الحقوقية خديجة رياضي لـ”مدار21″.
“لقد تمكنت جمعيات النساء من تدبير التناقضات السياسية داخل تنظيماتها وتجنب -في العديد من الحالات- تفتت تنظيماتها كما حدث في الحقل النقابي حيث يؤدي الانشقاق في حزب سياسي أوتوماتيكيا تقريبا إلى انشقاق نقابي، وقاومت حركة النساء في مجتمع يُعتبر فيه النضال من أجل تحقيق العدالة بناء على النوع/الجندر من أصعب النضالات، لأنه يعيد النظر في أسس المجتمع البطريركي والتي تتمثل في السيطرة الذكورية، وتهدد الأسس الإيديولوجية للنظام الذي يقمع النساء، هذا المجتمع البطريركي الذي يعتبر أيضا أحد الوسائل الضامنة لاستمرارية النظام الاستغلالي الرأسمالي”.
“العمل مع النساء” بدل “العمل من أجل النساء”
ومع ذلك، ترى الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أنه “بدون إنكار أهمية حركة النساء في النضال من أجل التغيير الاجتماعي في المغرب، يمكن القول إنها مطالبة بإعادة التفكير في مناهجها وفي أولوياتها”، مضيفة أنه “ليس منتظرا بالمرة من جمعيات النساء أن تعيد النظر في اختياراتها التي تقوم على الارتكاز على النخب، ومحور عملها على المطالب التشريعية في مجال الأسرة بشكل رئيسي، وهو ما يستجيب لأولويتهن كنساء ينتمين للطبقات الوسطى”.
“هذا التجديدُ منتظرٌ تحقيقهُ من طرف منظمات النساء المحلية غير الحكومية. وبالرغم من كونها غير معروفة فهي الأكثر عددا وفعالية. إنها تتوفق في أداء هذه المهمة لأنها تنخرط في عمل القرب، كما أنها أكثر قربا من حركات الاحتجاج الشعبية نظرا لتواجدها الجغرافي وانتماءاتها الطبقية، أو لاختياراتها الإيديولوجية”.
وترى أن الأخيرة هي الأكثر تأهيلا لإعادة تجديد التوجه النسائي المغربي، بجعله توجها نسائيا ميدانيا ونضاليا وليس توجها خيريا أو إحسانيا، أي أن الأمر يتعلق بشكل جديد من أشكال التعبئة المواطنة من أجل تغيير وضعية النساء، بتبني استراتيجية عمل مع النساء وليس من أجل النساء.
ووصفت المتحدثة هذا التوجه بالتوجه النسائي الذي يعرف كيف يجد مكانته في انسجام مع كل النضالات من أجل مجتمع أكثر عدالة وأكثر إنصافا. لأن التوجه النسائي الذي يناضل ضد اللامساواة القائمة على النوع/الجندر لا يمكن فصله عن الأشكال الأخرى من الاستغلال والتمييز، ولا يمكنه أن ينجح إلا باندماجه في مختلف النضالات من أجل تحرر مجموع الشعب المغربي.
وبشرت بكون نقاش غني وخلاق انطلق بالفعل من طرف شبيبة متحمسة ونقدية جدا تجاه أشكال وبنيات النضالات الحالية، سواء المتعلقة بالحركة النسائية أو بالحركتين السياسية والنقابية. مضيفة أن “إعادة التفكير في التوجه النسائي هو مجال من المجالات ذات الأولوية لما يشكله النضال النسائي من أهمية في النضال الديمقراطي. والقطيعة مع نماذج التوجه النسائي الغربي هو أساس هذا التفكير”.
وتضيف بأن العناصر الأساسية في هذا النقاش تقتضي أن نأخذ بعين الاعتبار مختلف أشكال القمع المُسلط على النساء بتنوعهن وتعدد أصناف القهر الذي يطالهن، وبلورة نموذج تحرري يعكس واقع النساء المغربيات المضطهدات؛ “مشيرة إلى أن “الشباب هو دوما الحامل للتغيير. فالقائدات النسائيات الحاليات كن شابات لما أسسن حركتهن عبر مواجهة التحديات التي لم تكن هينة. والشابات اليوم سيعرفن كيف يجددن الحركة ويعدن التفكير في التوجه النسائي باستثمار الجهود والمكتسبات المحققة”.
مُساءلة فعالية المكتسبات المحققة
من جهتها، ترى الباحثة المختصة في النوع الاجتماعي وحقوق الإنسان، نعيمة بنواكريم، أن حركة النساء تواجه تحديات من شأنها أن تحد من قوة تأثيرها وفعالية أدائها ومن استمرارية واستدامة بنياتها التنظيمية وأنشطتها، كما قد ينتج عنه تراجع أو نكوص للمكتسبات التي حققتها المرأة المغربية.
وتتجلى هذه التحديات في نظر الباحثة في عدد من الكوابح والمعيقات الموضوعية والذاتية، إذ “لا زال تحقيق المناصفة والمساواة بين الرجال والنساء بعيد المنال بالرغم من أن الحركة النسائية قد نجحت في تأصيل قيم المساواة وحقوق النساء في المنظومة السياسية والتشريعية والمؤسساتية للدولة، غير أن كل مؤشرات قياس الفوارق بين الجنسين العالمية لا زالت تضع المغرب في مجال المساواة في الرتب الأخيرة بين الدول”.
ويطرح هذا التساؤل، من جهة، حول مدى فعالية جل المكتسبات التي حققتها النساء إبان العقدين الأخيرين، ويُسائل من جهة أخرى مدى فعالية القدرات التأثيرية والقوة التغييرية للحركة النسائية على سياسات الدولة وعلى المجتمع.
وقد يعود أمر هشاشة وعدم فعالية وتأثير هذه المكتسبات على واقع المرأة المغربية إلى انعدام الإرادة السياسية وإلى قدرة القوى المحافظة على التصدي لكل الإرادات والمبادرات التي تتوخى النهوض بأوضاع النساء، سواء كانوا في موقع المسؤولية أو داخل المجتمع، إلا أن هذا الواقع لا يعفي مسؤولية مكونات الحركة النسائية فيما يخص قدراتها على الرصد والتتبع وتقييم السياسات العمومية وصياغة البدائل وعلى فعاليتها في الأداء فيما يخص مساءلة الدولة عن حقوق المرأة، تقول بنواكريم.
وتنتقد الباحثة أيضاً، “نخبوية الحركة النسائية المغربية”، مقابل المد الجماهيري للتعبيرات السياسية للقوى المناهضة للمساواة بين الجنسين، فـ”رغم أن الحركة النسائية المغربية استطاعت أن تفرض نفسها كحركة اجتماعية مناهضة لكل أشكال التمييز ضد المرأة ولكل تعبيرات العقلية الذكورية وأن تجعل من قضايا المرأة قضية محورية في العمل السياسي، يبقى عنصر الحشد الجماهيري لمطالبها عنصر ضعف، خصوصا وأن التيارات المحافظة المناهضة لقيم المساواة وللحقوق الإنسانية للنساء لا زالت تمتلك مدا جماهيريا وموقعا سياسيا قويا في دواليب الدولة”.
وفي المقابل “تستند الحركة النسائية على هيئات سياسية ومدنية ضعيفة، تفتقد من جهة الجماهيرية وتركن من جهة أخرى على الهامش قضية المرأة في مشاريعها السياسية، إضافة إلى أن هذه الهيئات في علاقتها بهذه الحركة تضع أمام هذه الأخيرة تحديا أعظم، وهو خطر فقدان استقلاليتها، باعتبار أن السياسي تاريخيا في المغرب مع العمل الجماهيري يتجه نحو تطويع عمل هذا الأخير للاستجابة لأجندته السياسية وليس العكس”.
مشكل الخَلف
وترى بنواكريم أن الحركة النسائية المغربية تجد عسراً في تجديد نخبها؛ “يجد هذا المشكل منبعه فيما عرفه المجتمع المغربي من تحولات من حيث القيم والمنظور والتفاعل مع قضايا الوطن”. غير أن إشكال تجديد النخب النسائية وإن كان لا يخص الحركة النسائية لوحدها، ويعتبر تحديا تواجهه الحركات الاجتماعية في المغرب، والعمل التطوعي بشكل عام، إلا أن هناك عوامل ذاتية للحركة النسائية تعيد إنتاج واقع استنزاف إمكانياتها البشرية وقدراتها على التأثير وعلى تأطير المجتمع.
ولفهم أسباب ذلك، تقول الباحثة، لا بد من العودة إلى روافد هذه الحركة النسائية، فكما سبق الذكر فإن هذه الحركة قد نشأت في أحضان الأحزاب السياسية ومن طرف فاعلات نسائيات تمرسن على العمل السياسي والحزبي والتجأن لاختيار خلق فضاء خاص للنضال من أجل القضية النسائية، نظرا لانسداد آفاق للعمل النسائي داخل الأحزاب خلال النشأة.
وهو ما أضفى على النضال النسائي طابعا سياسيا بامتياز، وهكذا أعادت الفاعلات النسائيات في أدائهن إنتاج نفس الثقافة التنظيمية والبنى الحزبية، وهي بنى ذات طبيعة هرمية وتدبير فوقي وأبوي، تفتقد للشفافية وللعلاقات الديمقراطية، وذات سقف زجاجي يعيد إنتاج علاقات ذكورية تراتبية بين النساء داخل هذه التنظيمات.
وحدت هذه البنى التنظيمية للجمعيات النسائية من إمكانيات نساء قاعدتها من ولوج مناصب القرار، كما ساهمت في إعادة إقصائهن من الحياة العامة وفي تكريس التمييز ضدهن على أساس الولاءات أو حتى أحيانا على أساس الانتماء الاجتماعي والثقافي، مما يفسر فشل الحركة النسائية في إنتاج خلف لمؤسساتها، مشكلٍ من نخبة نسائية ذات قدرات قيادية مؤهلة ومتمرسة في العمل النسائي، وضامنة لاستمراريته بكامل الاستقلالية وبنفس التوهج ونفس الصدارة.
كما ترى أن انعدام الانفتاح على جيل جديد من النسائيات في المغرب، واحد من بين هذه المعيقات؛ إذ “مع مطلع القرن الواحد والعشرين، وكنتيجة طبيعية لما عرفته الساحة الوطنية آنذاك من احتدام للصراع بين الحركة النسائية والحركة الإسلامية حول كل القضايا النسائية التي تطرح على الساحة العمومية، برز توجهان نسائيان جديدان بمشاريع جمعوية متموقعة على طرفي نقيض”.
الأول، وفقا لبنواكريم توجه شبابي يعتبر امتدادا طبيعيا لجيل الثمانينات من الجمعيات النسائية، من حيث استناده على المرجعية الحقوقية ودفاعه المستميت عن الحريات الفردية وعلى المشروع المجتمعي الديمقراطي والحداثي. أما الثاني فذو توجه إسلامي، ظهر نتيجة احتدام الصراع بين الحركة النسائية وبعض مكونات الحركة الإسلامية، إذ “اتجهت هذه الأخيرة إلى خلق جمعيات إسلامية تشتغل على قضايا المرأة لمواجهة المد النسائي الحداثي، وهي تنظيمات مشكلة من نخبة نسائية بشهادات جامعية عالية ومتمرسة في العمل السياسي والجماهيري، وحيث كن في السابق يؤطرن النساء في المجال التربوي والدعوي”.