بعدما تناولنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة حضور المرأة في التاريخ المغربي، ودورها البارز سواء خلال الحقبة قبل الإسلامية أو بعدها في صدر الإسلام، مع اتضاح أنها كانت مساهمات أرستقراطية بالأساس و”معزولة”، سنقوم في هذه الحلقة بقفزة نحو منتصف القرن 20، حيث ظهرت بدايات حركة حقوقية نسوية مُنظمة منذ أربعينيات القرن العشرين.
في هذا الصدد، تؤكد الفاعلة الحقوقية، خديجة رياضي، أن “المغربيات نظمن أنفسهن مبكرا نسبيا من أجل الدفاع عن حقوق النساء مقارنة بيقظة وعي المغاربة والمغربيات تجاه معارك أخرى مرتبطة بالديمقراطية والحداثة، إذ لم تثر هذه المعارك الأخيرة اهتمام المجتمع إلا في وقت متأخر جدا، مثل النضال من أجل الفصل بين السلط وحرية التعبير واستقلالية القضاء أو النضال من أجل حرية المعتقد، وهو الموضوع الذي ما يزال حقلا محرما إلى اليوم”.
الأربعينيات.. “أخوات الصفا” يـُنظمن الحركة النسائية بالمغرب
وقالت الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان لجريدة “مدار21″، أن الخطوات الأولية للتوجه النسائي المغربي، أي التيار الفكري المناصر لقضايا المرأة، تعود إلى الأربعينيات من القرن الماضي، وذلك “لما اهتمت الأحزاب السياسية الأكثر أهمية بوضعية النساء، فالقادة الوطنيون الذين أقاموا مدة معينة في المشرق، والذين درسوا هناك، تشبعوا بالأفكار التقدمية التي تنادي بتعليم البنات واحترام كرامة النساء”.
وهو ما وافقت عليه الباحثة المختصة في النوع الاجتماعي وحقوق الإنسان، نعيمة بنواكريم، التي رأت أن منتصف الأربعينيات (حيث كان المغرب ما زال تحت سيطرة الاستعمار) شكل أول بروز للعمل النسائي بشكل منظم وخارج البنيات الحزبية القائمة آنذاك، مع تأسيس جمعية “أخوات الصفا”، ورغم أنها كانت جمعية تابعة لحزب سياسي غير أن عملها ومطالبها انصبا أساسا على قضايا لنساء.
وتضيف الرياضي في هذا الصدد، أن النساء المنتميات لأحد الحزبين الوطنيين في تلك المرحلة (يتعلق الأمر بحزبي الاستقلال والشورى والاستقلال) نظمن أنفسهن في جمعية “أخوات الصفاء”؛ وفي سنة 1944 تم الإعلان عن عدة مطالب لتحسين وضعية النساء اللواتي كانت أغلبهن أميات وفقيرات.
ومع ذلك، تضيف أنه لم تتم المطالبة بالمساواة بين الرجال والنساء بشكل صريح من طرف هذه الجمعية، “لكن في ذلك السياق التاريخي كان خطابها متقدما جدا عن عصره، إذ كانت القضية الرئيسية التي دافعت عنها جمعية “أخوات الصفا” هي احترام النساء الخادمات في البيوت، وإعداد مدونة للأحوال الشخصية لحماية النساء في إطار الزواج، لأن مثل هذه المدونة لم تكن موجودة آنذاك، فضلا عن التوعية ضد تعنيف النساء”.
وفي قراءة بنواكريم لتلك الظرفية، رأت أن مجال تدخل الجمعية انصب أساساً على تقديم دور محو الأمية والعمل الخيري والتكافلي، “إلا أنها وبالموازاة مع ذلك كانت لها مطالب تدعو للحماية القانونية للمرأة وللمساواة وعدم التمييز بين النساء والرجال في عدد من الحقوق وغيرها من المطالب التي تخص الحقوق السياسية للنساء”.
ظهور إطارات أخرى قبل مرحلة “السبات”
ولم تكن أخوات الصفا، الإطار الوحيد الذي تبلورت فيه الحركة النسائية المغربية؛ “كان الحزب الشيوعي المغربي، الذي كان فرعا تابعا للحزب الشيوعي الفرنسي في تلك المرحلة، لكون المغرب كان ما يزال تحت الاستعمار الفرنسي، قد أنشأ “اتحاد نساء المغرب”. وكان هذا الاتحاد يهتم خصوصا بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية للنساء”. تقول رياضي.
وواصلت الحقوقية سرد قصة هذا الإطار “الشيوعي” إذ “كان يقوم بعمل القرب مع نساء الطبقات الشعبية من خلال جمعية “نساء المغرب” التي تحولت بعد مرور عدة عقود إلى “الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب”، والتي ما تزال نشيطة إلى اليوم، ولكنها انفصلت كليا عن هذا الحزب الذي تعرض هو نفسه للمنع من طرف النظام المغربي بعد الاستقلال، قبل أن يعود للظهور من جديد ببرنامج يمكن وصفه بالأحرى بأنه برنامج “اشتراكي ديمقراطي”.
وكخلاصة فقد ظهرت الموجة الأولى من التوجه النسائي المغربي في الفترة التي كان المغرب فيها مستعمرا، وامتدت من نهاية الأربعينيات حتى بداية الستينيات، أي بعد الاستقلال.
بدورها ترى بنواكريم أنه بعد الاستقلال، ورغم مساهمة العديد من النساء في بناء الدولة وانخراطهن في العمل السياسي والنقابي من أجل تعزيز الحريات ودمقرطة المؤسسات بالمغرب، ورغم بروز بعض التنظيمات النسوية آنذاك إلا أن المسألة النسائية بشكل عام ظلت إلى غاية السبعينيات مسألة جزئية لإشكالية بناء الدولة وتأسيس السلطة ومأسستها.
وخلصت إلى أنه “لم يكتب للتجارب النسائية في هذه المرحلة أن تفرض قضية المساواة ومناهضة التمييز بين الجنسين كقضية اجتماعية ذات بعد استراتيجي”.
بالنسبة لخديجة الرياضي؛ فـ”إبان هذه التجربة النسائية، ولما ضعف التوجه النسائي المرتبط بالأحزاب السياسية، تناولت النساء النقابيات المشعل، وتركن أثرهن من خلال تأسيسهن سنة 1960 لأول منظمة مستقلة للنساء وهي “الاتحاد التقدمي لنساء المغرب”. وتم تأسيس هذه المنظمة داخل المركزية النقابية المغربية الأولى “الاتحاد المغربي للشغل”، والتي تأسست في سرية، قبيل تأسيس هذه المنظمة النسائية، من أجل الإفلات من قمع السلطات الفرنسية. فقد منعت هذه الأخيرة على المغاربة تأسيس نقابتهم الخاصة بهم. “كانت النساء حاضرات في جميع هذه اللحظات الصعبة من النضالات الوطنية من أجل الاستقلال، والنضالات الاجتماعية داخل هذه النقابات”.
السـياسة تطغى على حقوق الإنسان
وتضيف المتحدثة ذاتها: و”بعد هذه التجارب النسائية السياسية والنقابية الكبرى، عرف نضال النساء سباتا طويلا. لقد احتل النضال السياسي الواجهة على حساب قضية حقوق النساء التي أقصيت وأرجعت إلى الخلف، خاصة بعد المواجهات الأولى ما بين الجناح اليساري للحركة الوطنية والملكية، على إثر الصراع حول طبيعة الحكم الذي كان ينبغي إقامته بعد الاستقلال”.
وبما أن القمع السياسي، وفقا للمتحدثة، هو دوما ملازم لإقصاء النساء، فإن الحسم لصالح نظام سياسي مفروض قد ارتكز على إنكار حقوق النساء. كما تم التخلي عن الأفكار الإصلاحية للعلماء المستنيرين التي انتشرت إبان الثلاثينيات والأربعينيات لصالح قراءات رجعية للنصوص القرآنية التي استعملت لتبرير التمييز ضد النساء وتهميشهن.
لم يقتصر هذا التهميش على الدولة، فـ”حتى أحزاب اليسار التي جسدت أمل الشعب المغربي في التحرر والحرية أهملت هي الأخرى مسألة المرأة بالادعاء أن الصراع الطبقي هو وحده الخيار الصحيح، وأن انتصار الطبقة العاملة سيكون كافيا لبناء دولة ديمقراطية حيث ستنعم النساء فيها بالمساواة مع الرجال ويتبوأن المكانة التي تليق بهن في المجتمع”.
ولم يظهر الجيل الثاني من التوجه النسائي إلا في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وكانت هذه الحقبة مرحلة يقظة ووعي هذه الحركة. لقد قررت مناضلات أحزاب اليسار، واللواتي كان أغلبهن ماركسيات التوجه، أن يتحكمن في مصيرهن فشرعن في تأسيس تنظيماتهن النسائية خارج الأحزاب السياسية، وفقا لخديجة الرياضي.
الثمانينيات فترة لها خصوصياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، مختلفة تماما عما كان عليه الوضع في الأربعينيات، كما أن تحولات كبيرة سيعرفها المجتمع المغربي، في شقه النسائي تحديداً سيكون لها الفضل في إحداث نقلة نوعية في مسار الحركة النسوية، وهو ما سنتناوله في الحلقة الموالية من هذه السلسلة…