جدل إصلاح مدونة الأسرة، استفحال ظاهرة الطلاق، العزوف عن الزواج، التحولات في العلاقات الزوجية والعاطفية وتقسيم الأدوار الاجتماعية بين الجنسين… يبدو أن المجتمع المغربي يتغير بعمق، متجهاً نحو ما يعتبره البعض “حداثة”، وينظر إليه آخرون بوصفه “تغريباً”، أي تشبها بالنموذج الغربي، على شتى المستويات، بما في ذلك مكانة النساء في المجتمع.
كثيرون يحملون مسؤولية هذه التحولات الاجتماعية، التي لا ينظر إليها دوماً بعين الارتياح، لما يُعرف بـ”الحركة النسوية”، أو “الفيمينست”، مع اندلاع سجالات حامية الوطيس، يتخللها قذف وتنمر وتسفيه كأنها طبول “حرب جندرية” تدق في المغرب.
واختارت ثلة ممّن يوصفون بـ”المؤثرين” ركوب الموجة، جاعلين من الموضوع قوت يومهم وعصب محتواهم الرقمي، معتمدين المقاربة الصِدامية ذاتها، ودون مراعاة للحقائق العلمية والتاريخية والحقوقية التي تؤطر الموضوع.
في شهر رمضان المبارك، تقترح “مدار 21” على قرائها هذا الملف الأسبوعي، الذي سوف يقتفي أثر “الحركات النسوية” أو “النسائية” بالمغرب، في مُحاولة للمساهمة في إطلاق نقاش هادئ وتقديم أجوبة عن أسئلة كبرى: هل الحركة النسوية المغربية بنت المجتمع المغربي وتحولاته أم أنها من واردات العولمة؟ وهل يمكن الحديث عن إيديولوجيا نسوية مغربية تنسجم مع تاريخ وتراث المملكة بعيداً عن المؤثرات الخارجية؟ وهل هي حركة حقوقية أم أنها لا تعدو أن تكون تنفيساً عن ضغط اجتماعي وتاريخي تعرضت له المرأة عبر تاريخ المجتمع المغربي؟
المرأة في صلب الحضارة المغربية
ولا يستقيم الشروع في الحديث عن تاريخ “الحركة النسوية المغربية”، أو حركة حقوق النساء بالمغرب، دون تقديم لمحة أولية عن موقع المرأة، من الناحية التاريخية، في المجتمع المغربي. لأن هذا السياق هو الذي سيتيح، من جهة، فهم حيثيات ظهور هذه الحركة الحقوقية وتبلورها، ومن جهة ثانية إمكانية إصدار حكم، ولو نسبي، على مشروعية مطالبها.
غير أن تاريخ المغرب مجال شاسع يصعب الإحاطة به كاملاً بالنظر لجذوره العميقة، لذلك قررنا أن نقتصر في هذه الحلقة الأولى على تقديم لمحة عن تاريخ المرأة المغربية في مرحلتين بارزتين، قبل وصول الإسلام إلى المغرب أولاً، ثم دورها في ظل هذا الأخير.
أرستقراطيات أمازيغيات بصمن تاريخ البلاد قبل الإسلام
شحيحة هي المصادر التي تتناول “المرأة المغربية” قبل الإسلام، لاسيما أن “المغرب” كدولة لم يتشكل بالصورة المعروفة اليوم إلا ابتداءً من العصر الإدريسي. ويذهب بعض المؤرخين إلى العصر المرابطي، بل يفضل آخرون تمييز “المغرب التاريخي” عن المغرب الحديث الذي تأسس عقب انفراط عقد الحماية الفرنسية واستلام الراحل محمد الخامس مقاليد مُلك البلاد.
وبناء على ذلك، فحتى الشخصيات النسائية المعروفة عن تلك العصور يصعب وصفهن بالـ”مغربيات”، وكمثال على ذلك فإن “ديهيا” أو “الكاهنة”، أشهر ملكات الأمازيغ ونسائهم قبل الإسلام، لم تكن أميرة على الرقعة الجغرافية المسماة حاليا بـ”المغرب”، بل عاشت بمنطقة الأوراس بالجزائر، غير أنها جزء لا يتجزء من تاريخ النساء في المنطقة.
ذلك ما تؤكده الباحثة المغربية في اللسانيات والنوع الاجتماعي، فاطمة صديقي، إذ تعتبر أن الأمازيغيات المغربيات “كنّ على الدوام مرتبطات باللغة والثقافة الأمازيغيتين، وقد كن نحّاتات لفنون وثقافات تنضوي على رموز تتجاوز معانيها الحدود الجغرافية للمغرب”.
وتضيف في مقال علمي تحت عنوان “تاريخ الأمازيغيات بالمغرب” ((Une histoire des femmes berbéres du Maroc الصادر ضمن كتاب جماعي، أن “الاكتشافات الأركيولوجية (الحفرية) بالمغرب أظهرت أن بعض الأمازيغيات كنّ يتمتعن بحظوة اجتماعية عالية في المجتمع المغربي ما قبل الإسلامي، وحتى في ظل الإسلام”.
“بعض التماثيل والبقايا التي عُثر عليها بمواقع “وليلي” و”بناصا” و”شالة”، تتيح تخيّل عيشهن خلال تلك الفترة، ولاسيما الوجاهة والحظوة التي كن يتمتعن بها خلال الحقبة الرومانية تحديداً”. يقول المقال مضيفا أن النصوص المنقوشة على شواهد القبور أو على التماثيل المنصوبة على شرف نساءِ، أو من طرفهن، توفر معلومات هامة عن ساكنة “موريطانيا الطنجية”، وهو الاسم الذي اتخذه الرومان للمنطقة الممتدة شمال المغرب اليوم بعد احتلالها.
ومن النماذج الكبرى على ذلك، يُحيل البحث على سيدة من ذلك العصر تدعى “فابيا بيرا”، بنت أرستقراطي أمازيغي اسمه “إيزلطا”، والتي عَرفها التاريخ بفضل النصب التذكاري الذي شيدته على شرف زوجها الراحل، ماركوس فاليريوس سيفيروس، الذي كان شخصية عسكرية بارزة بمدينة وليلي؛ حيث نقشت على ذلك النصب باللغة الرومانية ما مفاده “إن هذا الجندي الروماني تزوجني بينما أنا، بنت هذه المنطقة، لا أتمتع بالمواطنة الرومانية”.
عاشت هذه الأمازيغية خلال الحقبة التي وقع فيها ضم الإمبراطورية الرومانية لشمال المغرب ووسطه اليوم، وقد نجحت فابيا هذه في تسلق الهرم الاجتماعي لتكتسب صفة “فلامين” (Flamine)، وهو منصب ديني رفيع في الإمبراطورية، ترجمته الحرفية “راهبة الدين الرسمي للإمبراطورات”، لتصير بذلك الأولى على الإطلاق في هذا المنصب.
وتذهب بعض المراجع التاريخية إلى أن امرأتين فقط نجحتا، عبر التاريخ المغربي، في الوصول إلى ذلك المقام الرفيع، ما دفعهن لترك وليلي والتوجه نحو طنجة، العاصمة آنذاك، منصب لم يكن يُمنح إلا لقاءَ خصال رفيعة وقيم روحية سامية يتمتعن بها.
باختصار، ترى الباحثة صديقي أن “إرث المرأة الأمازيغية يشهد على دورها الفعال في تاريخ المغرب، ومن حيث الشرعية التاريخية، فإن المكانة التي اكتسبتها لا تقتصر على أعمال الشجاعة وحدها (كما هو حال الكاهنة ديهيا مثلا)، بل ترجع أيضا إلى دورها الأساسي، على الرغم من ضغط النظام الأبوي الذكوري، في خلق والحفاظ على اللغة والثقافة الأمازيغيتين، فضلا عن الطقوس والرموز النسائية، التي تقع اليوم في قلب الأدب والفن وفنون العيش المغربية”.
وخلصت إلى أن “خليط الأسطورة والواقع قبل الإسلامي نجح في تغذية الخيال واللاوعي الجماعي المغربي اليوم، ويرجع الفضل في ذلك في المقام الأول إلى الدور الذي تلعبه المرأة في نقل اللغة والثقافة من خلال التربية”.
صدر الإسلام.. نساء في الثقافة والسلطة والدين
في صدر الإسلام تصبح الأمور أوضح، إذ في وقت يتهم بعض المستشرقين الثقافة الإسلامية بالوقوف سدا منيعا في وجه تحرر النساء ومساواتهن بالرجال، يحكي التاريخ المغربي الإسلامي عن نساء كنّ “رجالاً ونصف” بالتعبير الشعبي المغربي، وساهمن في تشييد الحضارة المغربية والعربية/الإسلامية بل والإنسانية بقدر لا يُستهان به.
يتعلق الأمر مثلا بفاطمة بنت محمد الفهرية، أو “أم البنين”، التي ولدت حوالي سنة 800 ميلادية، 8 قرون تقريباً بعد “فابيا بيرا”، لتكون مؤسسة أول جامعة في العالم، “جامعة القرويين” بمدينة فاس بالمغرب، وذلك سنة 859 للميلاد.
ما قصة المغربيات مع المجال الديني بشكل عام؟ فإذا كانت “بيرا” قد شيدت كما تذكر المراجع معابد لآلهة روما، فقد بنت الفهرية جامعة القرويين إلى جوار مسجد، ليكون الأول من نوعه الذي يُبني بمال خاص بامرأة، في زمن كان بناء المساجد حكراً على بيت المال، أي على الدولة.
وصف ابن خلدون الفهرية بكلمات عذبة في مقدمته: “كأنما نبهت عزائم الملوك بعدها، وهذا فضل الله يؤتيه لمن يشاء من عباده الصالحين، فسبحانه وتعالى إذا أراد لأمة الرقي والرفعة وأذن لها بالسعادة الغامرة أيقظ من بين أفرادها رجالا ونساء، شبابا وشيوخا، أيقظ فيهم وجدانا شريفا وشعورا عاليا يدفعهم للقيام بصالح الأعمال وأشرفها”.
بعدها بقرنين ونصف، وخلال العصر المرابطي، ستتواصل قصة “الإمبراطورات” المغربيات، مع زينب بنت إسحاق النفزاوية. زوجة يوسف ابن تاشفين “أمير المسلمين”، مؤسس مراكش، وأعظم أباطرة المرابطين. والتي لعبت من خلال هذا الزواج دورًا كبيرًا في تثبيت دعائم الدولة بالغرب الإسلامي، وتوحيد “المغرب الأقصى”.
قال عنها ابن خلدون: “كانت إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة”، ويحكى أن زينب كانت إذا اختلت بيوسف زوجها قالت له: “سأجعل منك سلطانا كبيرا يحكم المغرب بأكمله”، وهو آنئذ حلم كان يبدو بعيد المنال بسبب انتشار الإمارات والدويلات والقبائل القوية التي يصعب توحيدها في دولة واحدة، لكنه تحقق للمرابطين في عهد يوسف ابن تاشفين بالفعل.
سيكون من المجحف حقاً تجاهل نساء أخريات أثثن التاريخ المغربي بأشياء من ذهب، وهن كثيرات لا يسعف الحيز للحديث عنهن جميعاً ولا يعد ذلك الغاية من هذا الملف أساساً، وسنكتفي بهذه الأمثلة القليلة التي تعد غيضا من فيض، فقط كمقدمة لملف اخترنا له أن ينطلق من مسلمة أن المرأة المغربية لم تكن أبداً بعنصر سالب في تاريخ البلاد، ولا هي بمنذورة منذ الأزل للأشغال المنزلية وتربية الناشئة، كما تروج لذلك بعض الصور النمطية.
هذه دروس التاريخ المغربي بمختلف حقبه، ورغم كل التحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت عليه، وهو يعطي كل الشرعية لطرح سؤال حول “الحركة الحقوقية النسوية” في المغرب ومطالبها، والتي سنشرع في تناولها بدءً من الحلقة القادمة.