الأحد, يناير 26, 2025
Google search engine
الرئيسيةالشامل المغربيالحاجة إلى اليسار اليوم كخيار سياسي

الحاجة إلى اليسار اليوم كخيار سياسي


يعيش المغرب ومنذ مدة على وقع تقلبات اجتماعية مست بالمواطنين مباشرة، من حيث القدرة الشرائية وغلاء الأسعار، وارتفاع الضرائب، وذلك نتيجة للازمات التي عرفها هذا المجتمع، إما على الصعيد الوطني المباشر؛ كأزمة كوفيد-19 وتوالي سنوات الجفاف، أو على مستوى الأزمة العالمية التي عرفت انحباسا على مستوى ابتكار أساليب جديدة للرقي بالأوضاع الدولية الاقتصادية والأمنية، وهو ما انعكس عامة على الدول المحدودة في معدلات التنمية وغير القادرة على ضمان معدات نمو تساعد على مواجهة هذه الصدمات الخارجية والداخلية. وبالنظر إلى الوضع الحالي في المغرب، حيث تزيد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية تعقيدا في ظل التضخم، البطالة، واتساع الفجوة بين الفئات الغنية والهشة، يصبح الحديث عن الحاجة إلى بدائل سياسية واقتصادية، ضرورة ملحة.

فارتفاع التضخم وغلاء المعيشة يُضعف القوة الشرائية، مما يزيد من الضغوط اليومية على الأسر المغربية، وخاصة الطبقات الوسطى والهشة. أما ارتفاع البطالة المستشرية، خاصة بين الشباب وحاملي الشهادات، تؤدي إلى الإحباط الاجتماعي، وتغذي الرغبة في الهجرة بحثاً عن فرص أفضل. وهو ما ينعكس على تدهور الوضع الاجتماعي بتراجع جودة الخدمات العامة (الصحة، التعليم)، ويؤثر ذلك بشكل أكثر على الفئات الضعيفة التي تفتقر إلى وسائل بديلة. وهو ما يقوي الرغبة في مغادرة البلاد بما يعكس ذلك شعوراً عاماً بانسداد الأفق الوطني، ويُظهر حاجة ملحة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة.

هذا دون التفصيل في كل ما ينعت به الاقتصاد المغربي باعتباره مكبلا بممارسات الريع وتضارب المصالح وزواج السلطة بالمال، وبالتفاوت في توزيع الاستثمارات بين المناطق، وغياب رؤية واضحة لمواصلة برنامج الحد من الفوارق المجالية والاجتماعية مما ينتج عنه استمرار العزلة الاقتصادية والجغرافية لبعض جهات المملكة، واللجوء إلى الحلول السهلة في تمويل مشاريع البنية التحتية، مثل تفويت المنشآت العمومية أو الاقتراض المفرط، بدلاً من الابتكار في إيجاد حلول تمويلية. ثم التحديات المرتبطة بالقطاعات الاجتماعية المتمثلة أساسا في ضعف جودة التعليم واستمرار التفاوت في الوصول إليه، وقصور في الخدمات الصحية، لا سيما في المناطق النائية. وطبعا استمرار مستويات الفقر، خاصة في القرى والمناطق المهمشة وهو ما أشارت اليه العديد من التقارير الوطنية (اخرها تقرير إحصاء السكن والسكنى 2024) والدولية (تقارير البنك الدولي). هذا بالإضافة إلى التحديات السياسية المرتبطة بتعزيز الديمقراطية، حيث تبدو الحاجة أكبر إلى استكمال إصلاحات المؤسسات وضمان الشفافية والمساءلة. والتجاوب مع مطالب الحركات الاحتجاجية في مجموعة من الأقاليم المغربية والتي تعرف تزايدا مضطردا بخصوص المطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ورفع التهميش عليها.

أما على مستوى التحديات الدولية، فيعتبر التغيير المناخي من أهم العوامل التي تؤثر خاصة على اقتصاد المغرب، وبالرغم من المجهودات البديلة، لازال هذا الاقتصاد مرتبط بشكل كبير على ما تجود به السماء من أمطار، وبالتالي فان المغرب يتأثر بشدة بتغير المناخ وبتوالي سنوات الجفاف، مما يهدد قطاع الزراعة الذي يعتمد عليه عدد كبير من السكان. مع مواصلة تناقص الموارد المائية وزيادة التصحر وهو ما يشكل ضغوطًا إضافية.

وعلى مستوى التوترات الجيوسياسية، ورغم المكتسبات المتقدمة للديبلوماسية الوطنية بقيادة عاهل البلاد بخصوص ملف الصحراء المغربية، فان استمرار النزاع الإقليمي بشأن قضية الصحراء المغربية يؤثر على علاقات المغرب مع بعض الدول حيث يسعى المغرب دائما للحفاظ على توازن دبلوماسي بين قوى دولية متصارعة، مثل الولايات المتحدة مع رجوع دونالد ترامب الى السلطة، الاتحاد الأوروبي، روسيا والصين.

هذا دون نسيان التحديات الاقتصادية العالمية والمرتبطة بارتفاع أسعار الطاقة الذي يؤدي إلى زيادة تكلفة الاستيراد وضغط كبير على الميزان التجاري. كما أن تقلبات الأسواق العالمية تؤثر بشكل مباشرة على الاقتصاد المغربي الذي يعتمد على التصدير. وإن الموقع الجغرافي يجعل المغرب دائما بوابة عبور رئيسية للمهاجرين غير الشرعيين، مما يزيد بقوة ضغوطًا على بنيته التحتية وخاصة مع السياسة الإنسانية التي اعتمدها المغرب تجاه مهاجري جنوب الصحراء.

إن الوضع الذي يعيشه المغرب، من حيث التحديات الاقتصادية والاجتماعية، يفتح باب النقاش حول ضرورة البحث عن بدائل سياسية قادرة على معالجة هذه الإشكاليات. في هذا السياق، قد يُعتبر اليسار كخيار سياسي قادر على تقديم حلول مبتكرة ومختلفة للتعامل مع الوضع الراهن والمستقبلي. اليسار باعتباره فكرا بشريا كونيا وخيارا سياسيا له تاريخ متجدر إنسانيا وفكريا، وله تضحيات جسام وفق منظور مشروع مجتمعي قيمي، أساسه وجوهره الفكر العقلاني العلمي والتقدمي والحداثي، والذي يرتقي بالإنسان الى العلا بفكره وقيمه وكينونته البشرية بغض النظر عن جنسه ولونه ولغته. ولا سبيل عنده لتحقيق مشروعه المجتمعي هذا إلا باحترام قواعد الديموقراطية المبدعة التي ناضل من أجلها ويعمل على الحفاظ عليها وتطوير قواعدها.

ولعل التاريخ -كما يقال- هو المحكمة العليا للبشرية، يعلمنا أن اليسار السياسي قدم مجموعة من التجارب التي ساهمت في معالجة القضايا المجتمعية وتعزيز العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية في العديد من البلدان. من بين هذه التجارب؛ الدول الاسكندنافية (السويد، الدنمارك، النرويج، وفنلندا) والتي تعتبر نموذجًا ناجحًا للسياسات اليسارية الاجتماعي. وذلك من خلال تطبيق دولة الرفاه الاجتماعي (Welfare State) التي تضمن التعليم المجاني، الرعاية الصحية الشاملة، ودعم البطالة، نظام ضريبي تصاعدي يحقق توزيعًا أكثر عدالة للثروة. وهو ما نتج عنه معدلات فقر منخفضة جدًا، أعلى مستويات جودة الحياة في العالم، تقليص الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. ونفس الامر يمكن استلهامه من تجربة تشيلي في عهد سلفادور أليند (1970-1973)، والبرازيل في عهد لولا داسيلفا (2003-2011)، و إسبانيا في عهد الحزب الاشتراكي (1982-1996):، والهند في عهد اليسار (ولاية كيرالا)، وفرنسا في عهد الجبهة الشعبية (1936-1938)، والأوروغواي (عصر الجبهة العريضة منذ 2005)… وغيرها من التجارب اليسارية الناجحة.

إن الدروس المستفادة من هذه التجارب اليسارية في تدبير الحكم تتمثل في أولوية العدالة الاجتماعية، حيث ركزت على تقليص الفوارق الاجتماعية وأن معظم هذه التجارب أثبتت أن السياسات اليسارية يمكن أن تحقق نموًا اقتصاديًا مستداما متزامنًا مع العدالة الاجتماعية.

فعلى مستوى معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية فان اليسار، بتوجهاته الهوياتية الاقتصادية، تتبنى نماذج تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الشاملة. في ظل التفاوت الكبير في توزيع الثروات والمصادر الاقتصادية بين المناطق والفئات الاجتماعية في المغرب، هذه السياسات تركز على تعزيز العدالة الاقتصادية من خلال تحقيق التوازن في توزيع الاستثمارات باعتماد استراتيجيات تهدف إلى تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، وتحقيق تنمية مستدامة في المناطق النائية والقروية، وتعزيز البرامج الاجتماعية مثل الدعم المباشر للأسر الضعيفة، والحد من الريع الاقتصادي الذي يساهم في تعزيز الفقر وعدم المساواة. كما يعمل جاهدا من أجل التصدي للبطالة وزيادة فرص الشغل بالتركيز على الاستثمار في الاقتصاد المحلي وتشجيع القطاعات الصناعية والتكنولوجية التي يمكن أن توفر فرص عمل ثابتة ومتنوعة والعمل على دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة والاهتمام بتوفير التكوين المهني الذي يمكن أن يكون جزءًا محوريا من الحل لمشكلة البطالة، خصوصًا بين الشباب.

على مستوى معالجة التضخم والقدرة الشرائية فان السياسات الاجتماعية لليسار، مثل الزيادة في الأجور في القطاعات الحيوية، وتقليل الضرائب على الطبقات الوسطى والهشة، يمكن أن تساعد في مواجهة التضخم وضغط الأسعار على الأسر. كما يمكن اتخاذ تدابير للحد من ارتفاع الأسعار من خلال تقوية الرقابة على الأسواق. كما يعمل اليسار على تعزيز النظام الاجتماعي من خلال أولوية إصلاح التعليم، حيث يعمل على توجيه المزيد من الاستثمارات لتحسين جودة التعليم في كافة المناطق، وتوسيع قاعدة الوصول إلى التعليم الأساسي والعالي. ويعتبر تحسين النظام الصحي من الأولويات الاجتماعية لليسار بتعزيز جودة الرعاية الصحية في المناطق النائية خاصة، مع زيادة الاستثمار في البنية التحتية الصحية وتحسين الظروف الصحية للمواطنين عبر سياسات الدولة الداعمة.

ولإيمانه بضرورة ان تلعب الدولة دورها في توفير الخدمات والرعاية الاجتماعية، فان تحسين الخدمات العامة والضمان الاجتماعي تعتبران كذلك من أولويات اليسار الذي يعمل على تحسين الخدمات العامة وجعلها أكثر كفاءة، بالإضافة إلى تعزيز الضمان الاجتماعي لجميع المواطنين بالعمل على التفعيل العملي للمشروع الملكي في الحماية الاجتماعية بشكل خلاق ومبتكر كأمر واقع ومتاح وفق التوجيه الملكي، وهو أمر بالغ الأهمية في مواجهة التحديات الاجتماعية. هذا مع الإشارة طبعا إلى أن الدولة الاجتماعية في الأصل والمنشأ هي مفهوم اقتصادي وسياسي يرتبط باليسار بشكل رئيسي، ويُعتبر جزءًا من التصور السياسي الذي يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة الاقتصادية، وتعزيز رفاهية المواطنين من خلال تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد. حيث ينظر إلى الدولة الاجتماعية في الفكر اليساري كأداة لتحقيق توازن بين القوى الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر هشاشة. وعليه فان هذا النموذج يعتبر جزءًا من الفكر اليساري لأنه ينطوي على رؤية دور الدولة كحامية للمصالح العامة ورافعة للعدالة الاجتماعية.

على مستوى السياسة الخارجية وان كان المجال محفوظا للملك وبناء على توجيهاته، فان اليسار يعمل داخليا من اجل تعزيز الاستقلالية الاقتصادية للمغرب، مما يقلل من تأثيرات التوترات السياسية، سواء فيما يتعلق بقضية الصحراء المغربية أو التوترات الدولية. مع تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع دول أخرى بما في ذلك القارة الإفريقية والأسواق الآسيوية وهو ما يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة للاقتصاد المغربي. اما بخصوص الجهرة فاليسار دائما يعتمد سياسة إنسانية تجاه الهجرة، ويعمل على تطوير بيئة تضمن حقوق الإنسان للمهاجرين، مع دمجهم في الاقتصاد الوطني من خلال برامج دعم وتأهيل تضمن الاستفادة المتبادلة. وكركيزة لتقوية الجبهة الداخلية، فثقافة اليسار وهويته يركزان دائما على تعزيز الديمقراطية والشفافية على الصعيد السياسي، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، خاصة من خلال تفعيل كل القوانين والإجراءات الخاصة بمكافحة الفساد، بوضع استراتيجيات قوية لذلك وتعزيز الشفافية في التسيير الحكومي. وإصلاح المؤسسات بتحسين آليات المساءلة والشفافية، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

إن استضافة المغرب لأحزاب اليسار الممثلة في الأممية الاشتراكية لأول مرة في بلد عربي، من طرف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، هذا الاجتماع الذي عرف نجاحا باهرا باعتراف قيادات هذا الكيان الاممي الاشتراكي، يعبر عن عربون تقدير واحترام لهذا الحزب، الذي قرر احتضان هذا المنتدى، فوق الأرض الإفريقية التي تنتمي إليها حركته الاشتراكية، وهو احترام عبر عنه المجتمعون بالحضور الكثيف، وبالمشاركة في كل محطات النقاش بحرية وبقوة، ثم الظروف التي تمت فيها هاته المشاركة، وهو ما يوضح أن اليسار، بالرغم من كل المشاكل والمتاعب التي عرفها، فإنه لم يستسلم، ولا زال يستنهض هممه في العالم كله لإعادة المبادرة وتطبيق مشروعه المجتمعي.

هذه الاستضافة التي تحمل أهمية كبيرة على عدة مستويات؛ يتجلى ذلك في تعزيز الدور السياسي للمغرب بحيث تعتبر هذه الاستضافة حدثًا يعكس مكانته السياسية الإقليمية والدولية. فهو يعزز من دوره كوسيط فعال في السياسة الدولية ويبرز التزامه بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة. كما أنه يبرز تقوية العلاقات مع الأحزاب الاشتراكية الدولية مما يساهم في تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي مع دول ذات توجهات سياسية مشابهة.

إن هذا الحدث المهم من طرف حزب يساري مغربي هو دعم للحوار بين الثقافات حيث يوفر منصة للحوار بين مختلف الثقافات والأيديولوجيات السياسية، مما يعزز التفاهم المتبادل ويساهم في معالجة القضايا العالمية من منظور اشتراكي. وبما أن الأممية الاشتراكية تهدف إلى تعزيز القيم الاشتراكية مثل العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية، وطرحها يرتكز على مفهوم المشروع التقدمي الاشتراكي، الذي يسعى إلى إيجاد حلول لعالم يشهد تغيرات واختلالات في التوازنات، ونهاية القطبية، أو بروز قطبيات جديدة. فان استضافتها في المغرب يرسل رسالة قوية حول التزام البلد بهذه القيم. كما مكن لهذا الحدث أن يساهم في مناقشة القضايا الإقليمية المهمة مثل الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومحاولة اقتراح توصيات وحلول سياسية مستدامة، وهو ما عكسه بالفعل نداء الرباط النتاج هذا اللقاء.



Source link

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات