إدريس عدار
تتقن أمريكا فن التسويق. لا يضاهيها فيه أحد. قبل أن تقوم بحذف هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية، وقبل أن تحذف المكافأة الموضوعة لمن يدل على موقع أبو محمد الجولاني، قدمته عبر إعلامها على أنه رجل المرحلة في سوريا.
تخفّف الجولاني من لحيته الكثة وغطاء الرأس. ظهر بلحية مشذبة وشعر رأسه مرتب بشكل عصري. اختفت مظاهر الرجل “الأشعث الأغبر”. غير خطابه أيضا في آخر ظهور له. كأنه خرج للتو من صالون حلاقة وتجميل وليس قاعة عسكرية.
وتخلى الجولاني عن اسمه “السلفي الجهادي”، أي أبو محمد الجولاني، وأعلن عن اسمه المكشوف “أحمد الشرع”. ولم يعد يخف وجهه حيث ظهر في قناة سي إن إن الأمريكية، وحاورته إعلامية توشحت رداء حتى لا يظهر شعرها. وجه رسائل في كل مكان.
ومن مقتضيات “اللوك” الجديد، أن يكون الخطاب مخففا وأنه لا يريد قتال غير المقاتلين، وهذا الأمر مجرد كلام للاستهلاك، وسأدلل على ذلك بعد قليل. هذا مجرد تكتيك إلى أن يتم الانتصار، ويتحدث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.
لكن من يدير العلاقات العامة للجولاني نسي أنه لما كان يقابل الإعلامية الأمريكية، كان وراءه علم تنظيم القاعدة، وهذا مؤشر على أن التعديل تم إجراؤه على الأعراض بينما الجواهر لم تتغير، وكثير من أمثاله تحولوا بسرعة من الجماعات الجهادية إلى العمل السياسي مثل عبد الكريم بلحاج بليبيا، الذي أسس حزبا ليحصل على حصته السياسية وجماعة مسلحة سيطرت على طرابلس.
إعادة التدوير أو الروسيكلاج محاولة لإعادة ترتيب الأوراق وتركيبها وفق رؤية معدة بعناية، لكن للأسف “الكذاب ينكشف مهما أخفى جوهره”. بقعة صغيرة في تفاحة تؤكد لك فسادها حتى لو كانت كلها تلمع. الأعراض في مخاتلتها تنبيء عن فساد الجواهر.
عمليات الماكياج والتجميل، التي جرت للجولاني، ليست جديدة. مرة استضافه أحمد منصور في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة، أو استضاف هو أحمد منصور في مكان ما بسوريا ولم يكشف عن وجهه.
أحمد منصور، الذي يعمل في قناة الرأي والرأي الآخر، لم يلعب دور الإعلامي وإنما دور الموجه للمشاهد. مما قاله إنه تجول حوالي 100 كيلومتر ورأى قرى درزية ومسيحية، والغريب، يقول منصور، أنكم، موجها كلامه للجولاني، أنتم من يوفر لها الحماية، محاولة لإظهار تسامحه، وهو تسامح يسبق العاصفة.
وكما قلت سابقا فإن بعض الأعراض حتى لو كانت طفيفة تكشف عن الجواهر الخبيثة، إذ قال في الحوار ذاته إن العلويين ليسوا مسلمين، والدروز بعث لهم دعاة حيث اعترفوا بأنهم لم يكونوا على الدين الحق وعادوا عن ذلك.
وبعد أن طمأن الطوائف والمخالفين، فلتت منه كلمة ساعده على هذه الفلتة أحمد منصور نفسه، عندما قال إننا الآن لن نحارب إلا من يحمل السلاح لأننا في مرحلة “رد الصائل” وليس في مرحلة الانتصار والتمكين. في مرحلة رد الصائل لن يحارب إلا من يحمل سلاحا ويحاربه ولكن بعد مرحلة التمكين سيكون له كلام آخر مع المخالفين، فلما كان في المرحلة الأولى لم يقتنع باختلافه مع الطائفة الدرزية ولكن بعث لهم دعاة ليرجعوهم إلى “دينه”. فلما يتمكن سيذبحهم.
وللجولاني صولات وجولات في الذبح وشعاره بـ”الذبح جئناكم”. فبعد أن درس سنتين في كلية الطب بدمشق، أراد تغيير مساره، لكن ليس مهنيا، حيث توجه إلى العراق سنة 2003 وانضم إلى فرع تنظيم القاعدة بقيادة الأردني أبي مصعب الزرقاوي، وبسرعة أصعب من أقرب المقربين لزعيم التنظيم، وبعد مقتل الزرقاوي انتقل إلى لبنان لدعم تنظيم “جند الشام”، عاد بعدها إلى العراق واعتقل من قبل القوات الأمريكية تم أفرج عنه لأسباب غير مفهومة، واستأنف نشاطه حيث انضم إلى تنظيم دولة العراق الإسلامية بزعامة أبي بكر البغدادي، الذي سيؤسس بعد الهجوم على سوريا دولة الإسلام في العراق والشام (داعش).
بعد اندلاع الحرب في سوريا انفصل عن البغدادي وعاد إلى تنظيم القاعدة، لكن هذه المرة مؤسسا لفرعها بسوريا تحت اسم جبهة النصرة. وفي 2015 شن هجوما عنيفا على القرى العلوية.
وفي إطار عملية التدوير أعلن سنة 2016 الانفصال عن القاعدة وتأسيس جماعة جبهة فتح الشام. التي سيتم حلها 2017 وتأسيس جبهة أوسع “هيئة تحرير الشام”.
وكان الجولاني حتى في الاجتماعات مع قادة الفصائل الأخرى لا يكشف عن وجهه.
من عرّاه اليوم ولأي سبب؟
تكتب وكالة الأنباء الفرنسية (السبت 7 دجنبر 2024″ مقالا تحت عنوان ” أبو محمد الجولاني من التطرف الى البراغماتية”. قالت فيه “تخلى الجولاني الطويل القامة ذو البنية القوية واللحية السوداء والعينينين الثاقبتين، تدريجيا عن العمامة التي كان يعتمرها في بداية الحرب ليرتدي زيا عسكريا وأحيانا الزي المدني”.
وتنقل عن الباحث الفرنسي توما بيرييه قوله “واصل، منذ 2015، خط مساره كرجل دولة في طور التكوين”، بعد أن قال إنه لا ينوي مهاجمة المصالح الغربية. كما تنقل عن الباحث آرون لوند قوله “أعتقد أنها قبل كل شيء مسألة سياسة ناجعة. فكلما قل خوف السوريين والمجتمع الدولي، بدا الجولاني لاعبا مسؤولا وليس متطرفا جهاديا وأصبحت مهمته أسهل”. وأضاف “هل هذا صادق تماما؟ بالتأكيد لا. هذا الرجل ينتمي إلى نهج أصولي ديني متشدد جدا. لكن ما يقوم به هو الشيء الذكي الذي يجب قوله أو فعله في هذا الوقت”.
وأظهر فعلا أنه ليس رجل مبادئ وإنما مصالح، عندما قال في حواره مع سي إن إن “إذا كان بقاء القوات الأمريكية لصالح سوريا فلا مانع من ذلك”، وفي تصريح لأحد قادة تنظيمه لتايمز أوف إسرائيل قال إن الفضل يعود إلى الضربات الإسرائيلية على ح.الله في المساعدة على التقدم المفاجئ، وأوضح أنهم يحبون الدولة اليهودية ويريدون تكوين صداقة”.