تسرد المسرحية حكاية جندي داخل زنزانة منخرط في حوار منولوجي متسائلا عن الحياة والموت والعدو والبنادق، عن سبب الحرب ؟ وما الجدوى من الحرب ؟ ولماذا نحارب ؟ وحين يكثر الأسئلة يجيبه قائد عسكري برتبة عالية بصوت كله تكبر وتجبر : ليس لك حق السؤال ؟ بعض الأسئلة بل كل الأسئلة رفض وكفر وامتناع وتمرد… يدخل الجندي السجين حالة هستيرية وهو يصارع العقارب داخل زنزانته متمرغا في الأرض، معلنا أنه لن يموت.. لن يموت.. بعدها يستحضر الجندي أمه وحديثه معها بأنه لا يريد أن يكون جنديا ولا يجيد التصويب، لكنهم أجبروه على أن يكون جنديا. كان يحلم أن يكون معلما ليعلم الناس حروف الأبجدية ثم حلم أن يكون راعيا يتبع خرافه بين دروب الحياة، ثم فنانا يعيش جميع الشخصيات وكل الحيوات، ” إياك أن تكون فنانا ! إنهم تائهون لا يسمعهم أحد…(هكذا تذكر نصيحة أمه). وتمنى أن يصبح كاتبا كذلك يكتب عن مملكة سبأ وعن أزهار الشر لبودليير وعن الحب الكبير لروميو وجولييت وعن الشيخ والبحر لهيمنغواي وعن الأساطير اليونانية القديمة…( مسرود يسافر بنا نحو عوالم للسرديات الإنسانية الخالدة)، ليقطع حلمه سؤال : لمن سأكتب ؟؟. ينعطف بنا الحوار المنولوجي للجندي واصفا كيف زارهم ذلك القائد برتبة عالية قائلا : أنت “جيلكيدو” ؟ لقد وقع عليك الاختيار… ستذهب للحرب لحمل البندقية.
جيلكيدو : لكن يا سيدي من العدو ؟ من أقاتل ؟
يتلقى “جيلكيدو” سيلا من كلمات القائد : لا تسأل.. صوب صوب جيدا.. احمل البندقية..لا تسأل..
يصرخ ” جيلكيدو” داخل زنزانته : الحرب خراب، الحرب شرارة، الحرب موت… سأعود إلى أمي لتطعمني التفاح ألذ تفاح في الكون. بعدها يرفع صوته صارخا سأفضحكم سأخبر الناس بأن العقارب أرحم منكم ( وهو يقضم التفاحة). يحمل الجندي سلة التفاح ويتجه نحو الجمهور صارخا سأبيع التفاح في كل مكان : تفاح للبيع.. تفاح للبيع، سأخبر العالم بأن العقارب أرحم منكم. يتبعه القائد باحثا عنه بين صفوف الجمهور يصعدان خشبة المسرح يطلق القائد الرصاص على الجندي ويبدأ بدوس التفاح تحت قدميه فينتهي العرض.
إن المتتبع للعرض المسرحي يخمن بأن الحكاية تبدو بسيطة من الوهلة الأولى، لكن كلما تقدم العرض يكتشف بأنها مخففة بالرموز والأسطورة والمضمرات والفراغات التي تتطلب متلقيا واعيا متيقظا. لقد استطاع كل من المؤلف “عادل اضريسي” والمخرج “نبيل البوستاوي” أن يقدما لنا عملا فنيا متكاملا وفق رؤية احترافية احترمت كل شروط العرض المسرحي الرائد.فالمشهد العام عبارة عن زنزانة ضيقة تسكنها العقارب، بالإضافة إلى توظيف ديكور بسيط انسجم مع متن النص المسرحي وأدوار الشخصيات وفضاء الحكي من كرسي خشبي مخصص للقائد العسكري وسطل الماء الخشبي الذي يوضع في الزنزانة وسلة التفاح المركونة إلى جدار الزنزانة. أما الإضاءة فكانت غير ثابتة تتبع الحالات النفسية للشخصيتين الحاضرتين على الخشبة ( البطل جيلكيدو والقائد العسكري) وتتلون بلون مسرودهم. دون أن ننسى أن الملابس في المسرحية كان لها دورها الجمالي والوظيفي من خلال حضور اللباس العسكري للقائد وللجندي السجين “حيث جرت العادة في المسرح أن تقابل الشخصية الرئيسية شخصية معارضة لها ومنافسة للبطل المسرحي وتوصف بالشر/الشخصية الشرير”. ( معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، د. إبراهيم حماده، 1985، ص49).
تنطوي المسرحية على ثنائيات لفظية تحمل معاني ودلالات مباشرة متعددة على نحو : الخير والشر، القوة والضعف، الآمر والمنفذ، الحرية والقهر… كما تحمل معان دلالية غير مباشرة/ رمزية على نحو : الموت والخلود، النسيان والذاكرة، الجمال والقبح، السلم والحرب… ذلك أن استحضار هذه الثنائيات الدلالية الرمزية داخل العرض المسرحي هو اشتغال على الرمز والأسطورة داخل النص المسرحي من طرف المؤلف من باب تكثيف المعنى وتقريب لصورة.
العرض المسرحي وتوظيف الأسطورة :
منذ الولادة الأولى للمسرح عند الإغريق سعى رواده من أسخيلوس وسوفوكليس إلى توظيف الميثولوجيا / الأسطورة في عملية الخلق الدرامي في بنائهم لنصوصهم المسرحية واختيار موضوعات مسرحياتهم من الأساطير. ذلك أن الانفتاح على الأسطورة من قبل المسرحيين هو انفتاح على عوالم واسعة رحبة حافلة بالأحداث والحركة والفضاءات والحكايات الحبلى بالخير والشر بالموت والحياة ” ولم يكن توظيف الأسطورة في المسرح الإغريقي توظيفاً للأسطورة برمتها وإنما كان توظيفاً لجزء معين منها، أي أن المسرحية تقام على حدث معين من أحداث الأسطورة أو على موقف من مواقفها… “. (Loulidi. Younes. (2001). The Greek Myth and Theater,p;261).
وبذلك فقد كان للتوظيف الميثولوجي في المسرح أثره في معالجة العديد من الموضوعات، نظرا لما توفره الأسطورة من إمكانات الخلق الدرامي في جوانبها الوظيفية الغنية. ومنذ بداية مشواره المسرحي بدأ المؤلف والممثل المسرحي عادل اضريسي العمل على تشكيل تجربته المسرحية الفنية المتميزة بوعي واقتدار عبر استلهام الموروث الشعبي والاشتغال على المرجعية التراثية المحلية والإنسانية وتوظيفها في الكتابة الدرامية ضمن العديد من نصوصه المسرحية منها مسرحيته ” أسطورة عين أسردون” وصولا إلى نصه المسرحي “لن أنساك أيتها العقارب” المتوسل بأسطورة “انكيدو” وهي من أشهر الأساطير الخالدة ( ملخص الأسطورة : “أنكيدو” شخصية أسطورية في ملحمة ” جلجامش الآشورية” إذ كان “جلجامش” ملكًا لمدينة “أوروك” فظلم أهلها وبطش بهم، مما اضطر الآلهة لخلقة “أنكيدو” كمنافس له، فتصارعا، ثم تصادقا، ومرَّ الاثنان بمغامرات عجيبة، ومات “أنكيدو” وذهب جلجامش لمغامرته الكبرى يسعى نحو الخلود… فبعد موت ” أنكيدو ” هام جلجامش على وجهه في الصحراء، وهو يبكي بُكاءً مرًا قائلاَ : هل سأموت أنا أيضًا…؟. إن توظيف شخصية ” جيلكيدو” داخل العرض المسرحي هو مزج بين اسمين “أنكيدو وجلجامش” واستدعاء للبحث عن الحياة والخلود والهروب من الموت والحرب والدمار والخراب والخنادق. “جيلكيدو ” الجندي صوت كل الجنود الرافضين للحرب وحمل البنادق، الجنود الذين يساقون للمقصلة دون سؤال واستفسار، لماذا نحارب ؟ ومن العدو ؟.
العرض المسرحي وتفاحة الخلود :
منذ بداية العرض المسرحي يشاهد الجمهور سلة للتفاح مركونة بجانب جدار الزنزانة إلى أن يتناولها البطل ويبدأ بقضمها ثم حمل السلة وترديد : تفاح للبيع.. تفاح للبيع. ويختتم العرض بمشهد يدوس فيه القائد العسكري التفاحة تلوى الأخرى بقدميه، والجندي البطل ممد على الأرض بعدما أطلق عليه القائد الرصاص… إن حضور التفاح في مشاهد المسرحية حضور للأسطورة وللرمز بكل حمولتهما الدلالية والفنية والتكثيفية، فالتفاح من أشهر أنواع الفاكهة في الأساطير القديمة إذ ورد في الأساطير النرويجية القديمة ذكر ثمار تفاح ذهبية، تمنح الخلود وتُمكن الآلهة من الحفاظ على شبابها وحياتها الأبدية، إذ يرجع أصل هذه الأسطورة إلى إلهة الربيع “أيدون” التي كانت تحرس بساتين التفاح الذهبي، وفي إحدى المرات سُرقت الثمار بعد أن خدعها أحد الأعداء؛ فبدأت الآلهة تزداد شيخوخة وتنحسر قوتها، لكن في النهاية استجمعت الآلهة ما تبقى لها من قوة وخاضت معركة مع أعدائها؛ تمكنوا على إثرها من استرداد ثمار التفاح واستعادة شبابهم وقوتهم وحياتهم. أما في مسرحية ” لن أنساك أيتها العقارب ” فالتفاح رمز للحياة والتشبث بها، وكره الجندي للموت والحرب والبنادق، ، “فجلكيدو” مثال للرفض وإثبات لأحقية الإنسان بالحياة والتمتع بها ومشروعيته في الحلم بأن يكون ما شاء وليس ما يشاؤون هم كما يكشف النص المسرحي :
القائد : صوب جيدا، عليك أن تحارب..
جيلكيدو: لا أجيد التصويب.. أكره الحرب..
وختاما إن العرض المسرحي ” لن أنساك أيتها العقارب” لفرقة “الأوركيد” أكدت بالملموس أن المسرح بتوظيفه للأساطير نجح في أن يصبح أداة قوية للثورة على المألوف فهو فن يمزج بين الهجوم والدفاع، الهجوم ضد كل ما هو رجعي وشائع ومألوف مما يخنق العقل والضمير ويكبلهما، والدفاع عن الأفكار المتقدمة التي تحث على التغيير والتقدم والخير والسلام، منطلقا مما هو كائن مستشرفا الممكن والمأمول في تقديم نص مسرحي مبتكر وأصيل يلامس واقعنا المعيش، بلغة درامية متدفقة دلالة ومنفجرة جمالية وفنية.