يدرك مختلف الفاعلين الأمازيغيين أن واقع الأمازيغية عمليا لا يترجم المكتسبات التي تحققت خلال العقدين الأخيرين في كل ما يرتبط بهذا الورش الهوياتي الكبير. فالهوة واضحة وعميقة بين موقع الأمازيغية دستوريا وحضورها واقعيا. لذلك ظل سؤال أجرأة المقتضى الدستوري والنصوص التشريعية؛ المتعلقة بترسيم الأمازيغية وإدماجها في مختلف مناحي الحياة العامة؛ مطروحا بحدة داخل أوساط الفعاليات الأمازيغية منذ عدة سنوات، لا سيما وأن حضور الأمازيغية داخل الفضاء العمومي مازال دون مستوى التطلعات رغم كل ما تحقق من تراكم إيجابي على هذا المستوى خصوصا في ما يتعلق بالهوية البصرية على واجهات الإدارات والمؤسسات والمرافق العامة.
آراء أخرى
لقد عاشت الحركة الأمازيغية خلال السنوات الأخيرة التي أعقبت المقتضى الدستوري- الذي فرضه استفتاء 2011- وضعا مرتبكا ومحكوما بسؤال: ما العمل؟؛ لكن مكونات الحركة لم تتمكن من تقديم إجابة واضحة وناجعة من شأنها أن تتحول إلى خارطة طريق للعمل الأمازيغي. وفي الوقت الذي كان يفترض في النضال الجمعوي الأمازيغي أن يتطور ويتجدد ويواكب الواقع الجديد الذي أفرزه دستور 2011، بدا واضحا أن مكونات الحركة الأمازيغية لم تتمكن من استيعاب دلالات الترسيم، وما أعقبها من تأخر كبير في إخراج القانون التنظيمي للأمازيغية؛ ناهيك عن كرونولوجيا الأجرأة ومنهجيتها… وهي معطيات جعلت الحركة الأمازيغية عاجزة عن تجديد خطابها وآلياتها الترافعية لمواجهتها. وذلك في الوقت الذي كانت فيه المرحلة الجديدة تقتضي امتلاك قوة اقتراحية بل وتقريرية أيضا للانتقال بالأمازيغية إلى مستوى الفعل وليس الإنفعال. لذلك، وإن كان واقع الأمازيغية قد تغير نظريا، فإنه تراجع عمليا…
- تجربة المشاركة السياسية:
هذا الركود النضالي رافقه نقاش حاد بين الفعاليات الأمازيغية، وكان سؤال الفعل السياسي مطروحا بقوة في هذا النقاش. وهو سؤال ليس جديدا على كل حال، لكنه أضحى أكثر إلحاحا وحضورا … ولا يبدو أن مكونات الحركة الأمازيغية تختلف بشأن الفعل السياسي بحد ذاته، لكنها تعرف اختلافات عميقة بشأن آليات وأدوات ومضامين وحدود الممارسة السياسية والجدوى منها. وفي ظل فشل تجربتين رائدتين سابقتين تتمثلان في “الحزب الديموقراطي الأمازيغي” الذي أسس لتجربة حزبية أقبرت بحكم قضائي في مرحلة ما قبل دستور 2011، و”حزب ثامونت للحريات” الذي تأسس سنة 2016 بعد دسترة الأمازيغية، لكنه أصبح بعد ذلك نسيا منسيا لأسباب ذاتية وموضوعية… في ظل فشل هاتين التجربتين إذن، تكونت لدى الكثيرين من نشطاء الحركة الأمازيغية قناعة مفادها أن تأسيس حزب بمرجعية أمازيغية خالصة لن يكتب له النجاح في السياق الحالي… لذلك بادرت بعض الفعاليات إلى اختيار نموذج آخر. وفي هذا الإطار لابد من استحضار تجربة “جبهة العمل الأمازيغي”، التي اختار منتسبوها قبل انتخابات 2021 التعبئة للانخراط في المشهد الحزبي القائم. وهو السلوك الذي برره المقتنعون به من منطلق أن الدفاع عن الأمازيغية يقتضي اقتحام المجال السياسي من خلال الانخراط الحزبي وتقديم مرشحين للانتخابات الجماعية والتشريعية تحت يافطة حزب أو أحزاب معينة، وهو ما تم فعليا عندما التحق أغلب أعضاء الجبهة بحزب التجمع الوطني للأحرار بعد لقاءات ومشاورات مع مجموعة من الأحزاب السياسية الأخرى.
لقد بدا واضحا أن هذه الخطوة كانت محكومة برؤية براغماتية، خصوصا وأن كل المؤشرات التي سبقت الاستحقاق الانتخابي لسنة 2021 كانت تشير إلى تنامي فرص حزب الحمامة في تصدر الانتخابات، وبالتالي قيادة الحكومة المنبثقة عنها، وربما اعتقد المنتمون للجبهة بأن انخراطهم في الحزب المرشح للفوز سيكون له تأثير إيجابي في مستقبل أجرأة ترسيم الأمازيغية، خصوصا وأن حزب التجمع الوطني للأحرار خصص حيزا من برنامجه الإنتخابي آنذاك لملف الأمازيغية لتجاوز ما أسماه “الركود المحافظ” في إشارة إلى حالة الجمود التي عاشتها الأمازيغية خلال ولايتين حكوميتين بقيادة العدالة والتنمية.
حينها كان السؤال المحوري الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما الذي ستجنيه الأمازيغية من الانخراط في المشهد الحزبي القائم؟ لأننا نعرف أن حضور الأمازيغية في الأجندات الحزبية لا يتجاوز اللوحات واللافتات المعلقة في واجهات مقرات هذه الأحزاب… لذلك كان من الحكمة أن لا نراهن كثيرا على هذه التجربة. ويبدو أن الأيام قد أكدت لنا بأن المبادرة لم تقدم أية خدمة للنضال الأمازيغي، بل ساهمت في تعميق الخلاف بين مكونات الحركة الأمازيغية حول سؤال: ما العمل؟… ومازالت حالة الركود سارية إلى اليوم، حيث انتقلنا فقط من ركود “محافظ” إلى ركود “مهادن”. أي من وضع كانت فيه الأمازيغية في الأرشيف إلى وضع جديد تحولت معه إلى ملف للاستهلاك الاعلامي دون إنجازات عملية… ومع ذلك تظل تلك التجربة محطة من محطات الدينامية الأمازيغية التي ينبغي استيعاب دلالتها من أجل تفادي السقوط في نفس الأخطاء، وإبداع صيغ نضالية أكثر فاعلية وتأثيرا في المستقبل.
- من المشاركة السياسية إلى الشراكة السياسية:
أثبتت تجربة المشاركة السياسية (سواء من خلال محاولة تأسيس حزب بهوية ومرجعية أمازيغية، أو من خلال الانخراط في المشهد الحزبي القائم) أنها ليست الخيار الأفضل للنهوض بالأمازيغية في السياق الحالي على الأقل، لذلك تبدو الحاجة ملحة اليوم لاقتراح مبادرات أخرى لإخراج الأمازيغية من نفق الجمود الإجرائي، خصوصا في كل ما يتعلق بإدماجها في مجالات الحياة العامة. وهذا يعني أن آليات الترافع يجب أن تتطور بشكل تصبح فيه مكونات الحركة الأمازيغية فاعلة ومؤثرة وشريكة في القرار السياسي المرتبط بأجرأة المقتضى الدستوري محليا وجهويا ووطنيا.
نقصد بمفهوم الشراكة اتفاقا بين طرفين أوعدد من الأطراف لتحقيق هدف أو أهداف محددة عبر القيام بإنجاز عدد من البرامج المشتركة، مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح الخاصة لكل شريك. وهذا العمل الثنائي أو الجماعي المشترك يتم على أساس تعاقد بين الأطراف المشاركة وإن اختلفت دوافعهم ومصالحهم… وحينما نتحدث عن حاجة الأمازيغية إلى بناء شراكة سياسية، فإن ذلك يعني أنها يجب أن تأخذ نفس المسافة مع التشكيلات الحزبية المختلفة دون أن يمنع ذلك المناضلين المنتمين للحركة الأمازيغية من الإنتماء الحزبي باعتبارهم أفرادا. وهذا حق دستوري لكل المواطنين طبعا، لكن دون أن يكون هذا الإنتماء تحت يافطة الأمازيغية. والشراكة بهذا المعنى تقوم على أساس التفاوض والاتفاق مع المؤسسات المدبرة للشأن العام في كل ما يهم أجرأة القوانين التنظيمية للأمازيغية. وهو ما يعني أن منطق الشراكة يتيح للفاعل الأمازيغي إمكانية المساهمة الميدانية في تنفيذ البرامج المتفق عليها دون أن يكون معرضا للإلغاء أو الاحتواء من طرف الشريك.
في هذا السياق يجب التأكيد على أن الشراكة تفترض توفر ثلاثة شروط أساسية في أطرافها تتجلى أولا في التوافق حول النظرة إلى المصلحة العامة لاستيعاب المصالح الخصوصية، وثانيا في الحرص المتبادل على ضمان المصلحة الوطنية الشاملة، وثالثا في التوافق على الآليات الضامنة لتفعيل وأجرأة التصور المشترك وحشد الوسائل اللازمة لتحقيق الغايات المنشودة. لذلك ينبغي على مكونات الحركة الأمازيغية أن تعمل على تقريب وجهات نظرها في أفق الوصول إلى ميثاق مشترك يتحول إلى خارطة طريق لتأسيس جمعية وطنية أو ائتلاف مدني وطني بفروع جهوية ومحلية؛ مهمتها الترافع من أجل النهوض بالأمازيغية على كل المستويات. ومن شأن هذا السلوك التنظيمي أن يكون مدخلا أساسيا لتنفيذ شراكات مع مؤسسات الدولة والمجالس المنتخبة المعنية بأجرأة وتنزيل الترسيم المنشود للأمازيغية. لذلك ينبغي أيضا على مكونات الحركة الأمازيغية أن تسترجع ديناميتها النضالية، وتتحول إلى قوة ضاغطة فعليا، وأن تتخلى عن لغة الإستجداء وخطاب المظلومية؛ حتى تساهم في صناعة القرار السياسي المتعلق بموقع الأمازيغية مستقبلا.
25 نونبر 2024