الألفاظ البذيئة بين الأطفال..مأساة جيل ضائع
برعلا زكريا
يتردد صداها في أروقة المدارس وزوايا الشوارع، تلك الألفاظ التي ما عادت تعرف حدود العمر ولا قيود الحياء. ظاهرة استفحلت حتى أضحى المرء يتساءل بألم: أين ذهبت براءة الطفولة؟ وكيف تعودت أفواه صغارنا على قاموس البذاءة والإسفاف؟ إنها معضلة تتجاوز كونها مجرد سلوك لغوي منحرف، إلى كونها مؤشرا صارخا على تصدع منظومة القيم وانهيار الحواجز الأخلاقية التي طالما حافظت على نقاء الطفولة وصفائها.
مع الأسف،يتلفظ الصغار اليوم بمفردات كانت بالأمس القريب حكرا على بيئات منبوذة اجتماعيا، ويتبادلونها في فضاءات اللعب والدراسة بعفوية مفزعة، كأنها أصبحت جزءا طبيعيا من حديثهم اليومي. هكذا لم تعد الكلمة البذيئة استثناء يستدعي الاستهجان، بل صارت قاعدة يتنافس عليها الأطفال كدليل على “النضج” و”الانتماء” في مفارقة تبعث على الأسى العميق.
ومن خلال فرضية أن الظواهر الاجتماعية المشينة ليست سوى نتائج التحولات الصناعية، تقدم مدينة القنيطرة نموذجا صارخا لهذا التحول المؤلم. فهذه المدينة التي تحولت بإيقاع متسارع من طابعها الزراعي التقليدي إلى حاضرة صناعية تعج بالمصانع والشركات، دفعت ثمنا اجتماعيا باهظا لهذا التحول الاقتصادي. حيث ارتفعت نسبة النساء العاملات بشكل غير مسبوق، إذ تشير الإحصاءات إلى أن عدد الأمهات العاملات في تزايد، يعملن خارج المنزل لساعات طويلة، كذلك ارتفعت الكثافة السكانية بالأحياء الشعبية بسبب ارتفاع سومة الكراء، هذه الأحياء بمثابة مدارس يتلقن بها الأطفال جميع مفردات الكلام النابي الصادمة.
هذا الواقع الجديد أفرز تغيرا جذريا في بنية الأسرة ووظائفها التقليدية. فالأطفال يقضون معظم يومهم بعيدا عن الرقابة الأبوية، والأخطر، في الشارع تحت رحمة مؤثرات بيئية متنوعة. والأم المرهقة التي تعود منهكة بعد يوم عمل شاق، لم تعد تملك الطاقة الكافية لممارسة دورها التربوي بالشكل المطلوب. وهكذا نشأت فجوة تربوية خطيرة امتلأت بمؤثرات خارجية غير محكومة، أبرزها رفقاء السوء ووسائل التواصل الاجتماعي.
وفي خضم هذه التحولات العاصفة، تخلى كثير من الآباء – طواعية أو اضطرارا – عن مسؤولياتهم التربوية الأساسية. حيث انغمس الأب في سباق اقتصادي محموم لتلبية متطلبات الحياة المعاصرة المتزايدة التكلفة، وانشغلت الأم بتحديات العمل خارج المنزل ومتطلباته، ليصبح التواصل العميق مع الأبناء ترفا لا يقدر عليه معظم الأسر.
حتى بلغ الاستسلام بكثير من الأسر حد القبول بواقع “لا يمكن تغييره” – كما يرددون. فصارت عبارات مثل “هذا زمن آخر” و”لم نعد نستطيع التحكم في أبنائنا” ديباجة يبرر بها الآباء تقصيرهم وعجزهم التربوي. إنها دائرة مفرغة من الاستسلام والتبرير، خلفت وراءها جيلا يترعرع دون بوصلة قيمية واضحة، فاقدا للمرجعيات الأخلاقية التي كانت تشكل درعا يحميه من الانحراف السلوكي واللغوي.
وفي ظل هذا الفراغ التربوي، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى مؤسسة تنشئة بديلة، تشكل وعي الأطفال وقيمهم بعيدا عن أي رقابة حقيقية حيث يقضي الصغار ساعات طويلة – تتجاوز سبع ساعات يوميا وفق دراسات حديثة – يستهلكون فيها محتويات رقمية متنوعة، غالبيتها تكرس ثقافة الإسفاف والألفاظ النابية.
كما يتابع أطفالنا بنهم “مؤثرين” اتخذوا من البذاءة أسلوبا للشهرة وجذب المتابعين، ويحفظون عن ظهر قلب عبارات وألفاظا لم تعد تعرف حدود الحياء. هذه الشخصيات الافتراضية أصبحت نماذج يحتذى بها، ومصدرا للقيم واللغة لدى جيل من الأطفال المتروكين في متاهة العالم الرقمي دون بوصلة أو توجيه.
إن الطابع الاستهلاكي الذي طغى على مجتمعاتنا المعاصرة ساهم بشكل كبير في تآكل القيم التقليدية التي كانت تحكم اللغة والسلوك. ففي مجتمع يقدس المادة ويضعها في قمة سلم الأولويات، تتراجع القيم المعنوية والأخلاقية إلى مرتبة ثانوية. وفي ظل هذا التشوه القيمي، تصبح البذاءة اللغوية مجرد “وسيلة تعبير” عادية لا تستدعي الاستهجان أو العقاب.
لقد أفرز الاقتصاد الصناعي الجديد في مدن كالقنيطرة نمطا استهلاكيا متصاعدا، يدفع الأسرة إلى الانغماس في سباق محموم للحصول على المزيد من الدخل، على حساب الوظائف التربوية الأساسية. وباتت العديد من المصانع والشركات والوظائف تستنزف طاقة الأمهات لساعات طويلة، تاركة الأطفال في مهب التيارات الثقافية المختلفة دون مرشد أو موجه.
وما يزيد الطين بلة تراجع دور المدرسة التربوي لصالح الوظيفة التعليمية البحتة. فلم تعد المدرسة ذلك الفضاء الذي يكمل الواجب التربوي للأسرة، بل أصبح الهاجس هو بلوغ أهداف تلقينية تهتم بالكم المعرفي على حساب البناء القيمي والأخلاقي خصوصا بالسلك التأهيلي في ظل الاكتظاظ وضعف الموارد وتراجع هيبة المدرس مع ارتفاع منسوب العنف بأشكاله إلى أن فقدت المدرسة قدرتها على ضبط السلوك اللغوي للمتعلمين والتصدي لموجة البذاءة المتنامية حتى أمست اللغة البذيئة تتردد في أروقة المدارس نفسها، وتحت سمع ومرأى الهيئة التعليمية التي باتت عاجزة – في كثير من الأحيان – عن مواجهتها بالحزم المطلوب. وبدلا من أن تكون المدرسة حصنا للقيم والأخلاق، صارت – للأسف – انعكاساً للواقع الاجتماعي المتردي.
ولأن مستقبل الأمة رهين بمدى قدرتنا على حماية أجيالنا الصاعدة من براثن التردي اللغوي والأخلاقي، وتمكينها من استعادة فطرتها النقية وبراءتها الأصيلة فحال أطفالنا يستدعي تظافر الجهود لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإلا فإن التكلفة ستكون حتما باهظة.