يشهد المشهد السياسي في المغرب مؤخرا تحولات عميقة خاصة بعد انتخابات 2021 والانتخابات الجزئية التي تبعتها، مما يعكس تزايد أزمة الثقة بين المواطن والأحزاب السياسية. في ظل هذا السياق، تطرح العديد من الأسئلة حول دور الأحزاب في تمثيل مصالح المواطنين ومدى قدرتها على الاستجابة للتحديات المتزايدة. يتناول هذا المقال بالدراسة أسباب هذا التراجع، بالاعتماد على أحدث الإحصائيات والاتجاهات، وتحليل مستقبل الأحزاب في ضوء التحولات السياسية والاجتماعية التي يشهدها المغرب.
أزمة الثقة بين المواطن والأحزاب
تعد أزمة الثقة بين المواطن والأحزاب السياسية في المغرب من أبرز التحديات التي تواجه النظام السياسي في الوقت الحالي. رغم أن انتخابات 2021 شهدت ارتفاعًا طفيفًا في نسبة المشاركة حيث بلغت 50.35% مقارنة بـ 43% في 2016، فإن هذا الارتفاع كان نسبيًا ولا يعكس بالضرورة تزايد الثقة في الأحزاب. بل إن هناك شعورًا متناميًا بين المواطنين بأن العملية السياسية أصبحت مسيسة بشكل متزايد، ولا تستجيب لمطالبهم الحقيقية.
إحصائيات الانتخابات الجزئية الأخيرة التي جرت مؤخرا، كانت صادمة، حيث سجلت نسبة مشاركة ضعيفة للغاية. ففي بعض المناطق مثل دائرة المحيط بالرباط، لم تتجاوز نسبة المشاركة 6,5 %، بينما كانت أقل من ذلك في دوائر أخرى. هذه النسبة المتدنية تشير إلى عمق الفجوة بين الناخبين والأحزاب، وتعزز الشعور بأن الأحزاب لم تعد تمثل مصالح القاعدة الشعبية.
الأسباب الهيكلية لتراجع الأحزاب
الأسباب الهيكلية التي تعاني منها الأحزاب المغربية متعددة وتعمق من أزمتها. أبرزها هو غياب الديمقراطية الداخلية داخل معظم الأحزاب، حيث لا تزال القيادات التقليدية تسيطر على الأجهزة الحزبية، مما يمنع بروز وجوه جديدة وشابة قادرة على قيادة التغيير. هذه الأحزاب أصبحت تعتمد أكثر على العلاقات التحالفية مع السلطة والنخب الاقتصادية، بدلًا من التركيز على التواصل المباشر مع المواطنين.
من أبرز الأمثلة على هذا التراجع الهيكلي هو الانهيار الذي شهده حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2021، حيث تراجعت مقاعده من 125 مقعدًا في 2016 إلى 13 مقعدًا فقط في 2021. هذا السقوط المدوي يعكس فشل الحزب في تلبية توقعات القاعدة الشعبية التي كانت تعتمد عليه لتحقيق إصلاحات عميقة. بالمقابل، استفاد حزب التجمع الوطني للأحرار من هذا الفراغ ليصعد إلى الصدارة بعد حصوله على 102 مقعدًا رغم الانتقادات التي تواجهه بأنه يفتقر إلى قاعدة شعبية حقيقية ويعتمد بشكل كبير على دعم النخب الاقتصادية والفساد الانتخابي.
تحولات في المشهد الحزبي
رغم تراجع الأحزاب التقليدية، شهد المشهد السياسي المغربي بعض التحولات التي تستحق الدراسة. من بين هذه التحولات، محاولة بعض الأحزاب الصغيرة والناشئة إدماج الشباب في هياكلها الحزبية وبرامجها السياسية. هذا التوجه يعتبر خطوة مهمة نحو تجديد الحياة الحزبية في المغرب، لكن الإحصائيات تشير إلى أن هذه المحاولات لم تحقق تأثيرًا كبيرًا على مستوى المشاركة السياسية للشباب.
في الانتخابات الجزئية الأخيرة، كان مستوى المشاركة بين الشباب ضعيفًا للغاية، حيث قدرت نسبة المشاركة بين الفئات العمرية الشابة (18-30 سنة) بأقل من 5% في العديد من الدوائر الانتخابية. هذا الرقم يعكس حالة الإحباط التي يعيشها الشباب المغربي تجاه العملية السياسية، حيث يشعرون أن الأحزاب لا تمثلهم ولا تعبر عن تطلعاتهم في التغيير.
الفجوة بين القيادة الحزبية والقاعدة الجماهيرية
الفجوة بين القيادة الحزبية والجماهير باتت أكثر وضوحًا بعد انتخابات 2021، حيث ظهرت قيادات حزبية تكنوقراطية بعيدة عن المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المواطنون. هذه القيادات تركز بشكل أكبر على التحالفات السياسية والتقارب مع السلطة بدلاً من الاستجابة لمطالب الشارع. الانتخابات الجزئية الأخيرة أظهرت بوضوح هذا التباعد، حيث كانت نسبة المشاركة ضعيفة جدًا في المناطق التي تعاني من التهميش الاجتماعي والاقتصادي.
على سبيل المثال، الدائرة الانتخابية لبني ملال، التي تعد من بين المناطق الأقل تنمية في المغرب، سجلت واحدة من أدنى نسب المشاركة في الانتخابات الجزئية، مما يعكس عمق التباعد بين الأحزاب والناخبين في هذه المناطق.
المجتمع المدني كبديل للأحزاب
في ظل هذا التراجع للأحزاب السياسية، بدأ المجتمع المدني يشغل دورًا أكثر فعالية في المشهد السياسي المغربي. الجمعيات الحقوقية والمنظمات الشبابية أصبحت تمثل صوتًا بديلاً للدفاع عن حقوق المواطنين والمطالبة بالإصلاحات. إحصائيات حديثة أظهرت أن عدد الجمعيات التي تأسست خلال السنوات الأخيرة في تزايد مستمر، حيث شهد المغرب تأسيس أكثر من 2000 جمعية جديدة في السنوات الخمس الأخيرة تركز على قضايا مثل حقوق الإنسان، التنمية المستدامة والدفاع عن البيئة.
هذه المنظمات بدأت تلعب دورًا أكبر في التأثير على السياسات العامة، من خلال تنظيم حملات توعية ورفع الوعي السياسي بين الشباب والمواطنين المهمشين. على سبيل المثال، في بعض المناطق التي سجلت نسبة مشاركة ضعيفة في الانتخابات، كانت الجمعيات المحلية هي التي قامت بتنظيم مبادرات محلية لتلبية احتياجات المجتمع، مما يعكس غياب الأحزاب وتركها الساحة للمجتمع المدني.
مستقبل الأحزاب السياسية في المغرب
في ظل هذه التحديات، يجب على الأحزاب المغربية أن تقوم بإصلاحات جذرية إذا ما أرادت استعادة ثقة المواطنين. الديمقراطية الداخلية وتوسيع قاعدة المشاركة داخل الأحزاب يعدان من أبرز الخطوات التي يجب أن تتخذها الأحزاب. كذلك، يجب على الأحزاب أن تركز على العمل الميداني والاقتراب من مشاكل المواطنين اليومية بدلًا من الاكتفاء بالتحالفات السياسية وتقاسم المناصب.
الإحصائيات تشير بوضوح إلى أن نسبة المشاركة الضعيفة ليست مجرد مشكلة ظرفية بل تعكس أزمة عميقة في الثقة بين المواطن والأحزاب و على الاخيرة أن تعيد النظر في أساليبها التواصلية وبرامجها الانتخابية لتستجيب لمطالب المواطن المغربي، وإلا فإنها ستفقد دورها بشكل نهائي في المشهد السياسي.
وفي الأخير فإن الأحزاب السياسية في المغرب تعيش مرحلة حرجة تتطلب منها إعادة تقييم أدائها ودورها في العملية الديمقراطية. الإحصائيات المتعلقة بنسب المشاركة المنخفضة في الانتخابات الأخيرة تشير إلى أن هناك حاجة ملحة لإصلاحات عميقة على مستوى الهيكلة والتواصل مع المواطن. إذا لم تقم الأحزاب بتلك الإصلاحات، فقد تجد نفسها خارج اللعبة السياسية، في ظل صعود المجتمع المدني والحركات الاحتجاجية كبديل شرعي للدفاع عن مصالح الشعب.