أسفرت جهود الوساطة الأميركية عن إبرام اتفاقين بين موسكو وكييف، الثلاثاء، يقضيان بوقف العمليات العسكرية في البحر الأسود، وحماية منشآت الطاقة من الاستهداف المتبادل.
ويأتي هذا التطور بعد أكثر من 3 سنوات من الحرب المدمرة، ليفتح نافذة أمل نحو استقرار ممكن في البحر الأسود، الذي يشكّل محورا استراتيجيا ليس بالنسبة لروسيا وأوكرانيا فحسب، بل لمختلف دول العالم، كونه يعد ممرا تجاريا رئيسيا للطاقة والغذاء.
“حزام أمني”
وتاريخيا، لطالما كان هذا الممر المائي ساحة للتنافس بين القوى العظمى، وشهد صراعات متعددة على مر الأزمنة.
للبحر الأسود أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة لموسكو خاصة، فمنذ عهد الإمبراطورة كاترين العظيمة، اعتبرت روسيا المنطقة “حزاما أمنيا” ضرورياً لحماية حدودها الجنوبية.
وحصلت روسيا على وصول مباشر للبحر الأسود عبر موانئ كيرتش وآزوف، بعد توقيع معاهدة كوتشوك كينارجا عام 1774. وأصبح ميناء سيفاستوبول منذ تأسيسه عام 1783 قاعدة بحرية استراتيجية.
وتوصلت الولايات المتحدة، الثلاثاء، إلى اتفاقين منفصلين مع أوكرانيا وروسيا لوقف الهجمات البحرية واستهداف منشآت الطاقة.
ويبقى البحر الأسود المنفذ الوحيد لروسيا إلى المياه الدافئة، مما يتيح لها الوصول إلى البحر المتوسط والشرق الأوسط وما وراءهما.
اقتصاديا، تعتمد روسيا على موانئ البحر الأسود لتصدير النفط والغاز والحبوب والأسمدة، إذ تمتلك 3 محطات رئيسية لتصدير النفط الخام على الساحل الشرقي للبحر الأسود.
وتصدر هذه المحطات المتواجدة في نوفوروسيسك وتوابسه وسوبسا مجتمعة نحو 1.8 مليون برميل يومياً من النفط الخام.
وتستخدم روسيا موانئ البحر الأسود أيضا لتصدير المنتجات النفطية المكررة.
ويربط خط أنابيب مصافي النفط على نهر الفولغا بميناء نوفوروسيسك لتصدير الديزل، كما تصدر روسيا وقود الثقيل والنافثا من هذا الميناء.
وتتعامل موانئ أخرى مثل توابسه وتامان وكافكاز مع صادرات متنوعة من المنتجات النفطية وزيت الوقود والديزل البحري.
وتعتمد روسيا على البحر الأسود أيضا في تصدير الحبوب والأسمدة والمنتجات الزراعية، إذ بلغت صادرات الحبوب الروسية أكثر من 45 مليون طن سنوياً قبل الحرب، نسبة كبيرة منها عبر موانئ البحر الأسود.
وتعد روسيا أكبر مصدر للحبوب في العالم، وأكبر مصدر للأسمدة النيتروجينية، وتستخدم موانئ البحر الأسود كنقاط رئيسية للتصدير إلى أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
وتزداد أهمية البحر الأسود لروسيا في ظل العقوبات الغربية، حيث شكلت الموانئ الجنوبية منفذا مهماً لصادراتها نحو أسواق جديدة، خاصة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.
“شريان حياة”
تمتلك أوكرانيا ساحلا يمتد لأكثر من 2700 كيلومتر على البحر الأسود وبحر آزوف، وتعتمد على موانئها الجنوبية الغربية (أوديسا، بيفدينيي، ميكولايف، تشورنومورسك) التي تتعامل مع نحو 80 بالمئة من صادرات الحبوب الأوكرانية.
وكانت أوكرانيا، قبل الحرب، خامس أكبر مُصدر للقمح عالمياً ورابع أكبر مُصدر للذرة، وثاني مُصدر لبذور عباد الشمس.
وألحقت الحرب الروسية ضربة قاسية بالاقتصاد الأوكراني وقدراته التصديرية، خاصة بعد أن فرضت موسكو حصارا بحرياً فعلياً في بداية الحرب، منعت خلاله السفن التجارية من دخول أو مغادرة الموانئ الأوكرانية.
ونجم عن ذلك تراكم مخزونات الحبوب داخل أوكرانيا، مما هدد بشكل مباشر قطاع الزراعة المؤثر في اقتصاد البلاد، وقدرة المزارعين على الاستمرار في الإنتاج.
وتسببت أزمة البحر الأسود في خسائر اقتصادية فادحة لأوكرانيا بلغت مليارات الدولارات شهريا، بعد أن تراجعت صادرات الحبوب بنسبة 30 بالمئة في الأشهر الأولى للحرب، ثم انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 30 بالمئة في 2022.
إضافة لذلك، تعرضت البنية التحتية للموانئ والنقل لأضرار بالغة بفعل القصف الروسي، بينما أدى تلغيم البحر الأسود إلى زيادة تكاليف التأمين البحري بشكل هائل، مما رفع تكلفة التصدير.
في يوليو 2022، تم التوصل إلى “مبادرة الحبوب في البحر الأسود”، التي سمحت باستئناف تصدير الحبوب الأوكرانية، بوساطة تركية وأممية.
وسمحت هذه المبادرة بتصدير أكثر من 32 مليون طن من الحبوب والمواد الغذائية، مما ساهم في خفض أسعار الغذاء العالمية بنحو 25 بالمئة.
لكن روسيا انسحبت من الاتفاق في يوليو 2023، متهمة الغرب بعدم الوفاء بالتزاماته المتعلقة بتصدير المنتجات الروسية.
غير أن أوكرانيا لم تستسلم لهذا الحصار، بل طورت ما أصبح يعرف بـ”ممر التضامن الغذائي”، وهو طريق بديل عبر نهر الدانوب ورومانيا، واستخدمت هجمات الطائرات المسيرة البحرية لإلحاق أضرار بالأسطول الروسي، مما أجبر روسيا على سحب معظم سفنها الحربية من غرب البحر الأسود.
ونجحت أوكرانيا بحلول نهاية 2023 في استعادة قدرتها التصديرية إلى مستويات مقاربة لما قبل الحرب، لكن بتكاليف أعلى بكثير.
التأثير العالمي
تتجاوز أهمية البحر الأسود الدول المشاطئة له لتشمل الاقتصاد العالمي، إذ يمثل هذا البحر معبرا حيوياً للتجارة الدولية، حيث يربط بين موارد آسيا الوسطى والقوقاز وأسواق أوروبا وما وراءها.
وتمر عبره سنوياً آلاف السفن التجارية محملة بمجموعة من السلع الأساسية في الاقتصاد العالمي، من النفط والغاز إلى الحبوب والمعادن.
ويعدّ البحر الأسود الطريق الأساسي للوصول إلى “سلة خبز العالم”، حيث توفر روسيا وأوكرانيا معاً أكثر من ربع صادرات القمح العالمية وخمس صادرات الذرة وأكثر من 75 بالمئة من صادرات زيت عباد الشمس.
وتعتمد دول كثيرة، خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا، على هذه الصادرات لتلبية احتياجاتها الغذائية.
وتستورد دول مثل مصر ولبنان وتونس أكثر من 70 بالمئة من احتياجاتها من القمح من المنطقة.
وتسببت أزمة البحر الأسود عقب اندلاع الحرب، مطلع عام 2022، في ارتفاع حاد بأسعار السلع الأساسية عالمياً.
وقفزت أسعار القمح بنسبة تجاوزت 40 بالمئة في الأشهر الأولى للحرب، بينما قفزت أسعار زيت عباد الشمس بأكثر من 60 بالمئة.
ووصل التضخم في أسعار الغذاء في بعض الدول إلى ألف بالمئة، مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لوصف الوضع بـ”أزمة جوع عالمية”.
كما يلعب البحر الأسود دورا محورياً في أمن الطاقة العالمي، حيث تعبر خلاله خطوط أنابيب رئيسية من روسيا وأذربيجان وكازاخستان، نحو أوروبا وتركيا عبر المنطقة.
ويتعامل خط أنابيب “CPC” قرب نوفوروسيسك الروسية مع 1.3 مليون برميل يومياً من النفط الخام القادم من كازاخستان، بينما تستورد دول مثل رومانيا وبلغاريا نحو 200 ألف برميل يومياً من النفط عبر البحر الأسود.
وتمثل المنطقة كذلك معبراً مهماً للغاز الطبيعي، حيث تمر عبرها خطوط أنابيب استراتيجية مثل “السيل التركي” الذي ينقل الغاز الروسي إلى تركيا وجنوب أوروبا.
إضافة إلى الغذاء والطاقة، يعد البحر الأسود مركزا مهماً لتجارة المعادن والصلب، حيث تُصدر أوكرانيا كميات كبيرة من الصلب عبر موانئها على البحر الأسود، وتمتلك شركة “ميتينفست”، وهي من أكبر منتجي الصلب في أوروبا، منشآت صناعية في شرق أوكرانيا ومدينة ماريوبول.
ويمثل الصلب الأوكراني نحو 10 بالمئة من واردات أوروبا، وتؤثر أي اضطرابات في إنتاجه أو تصديره على الصناعات الأوروبية بشكل مباشر.