هو عنوانٌ يستوحي فحواه من مَثَلٍ أمريكيٍ شهيرٍ يعود إلى عالم النفس الاجتماعي أبراهام مازلو عام 1966، كناية عن ارتباط كل فكر صانع بطبيعة الأداة التي يعمل بها أو تحيز معرفي يتضمن الاعتماد المفرط على أداة مألوفة. واشتهر هذا المفهوم باسم قانون الأداة، وأيضًا باسم قانون المطرقة، أو مطرقة ماسلو، أو “المطرقة الذهبية.
آراء أخرى
في خضم السّجالات المتجددة الراهنة حول تعديل قانون الأسرة، كناية عن “الأحوال الشخصية“، تظهر عدة “مطرقات ذهبية” يلوّح بها أعضاء المجالس العلمية وفقهاء الشريعة، ودعاة المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، والحقوقيون ونشطاء الحركة النسائية، وبقية المناصرين أو المتخوفين مما ستنتهي إليه ضوابط الزواج والطلاق والحصانة والإرث وبقية الاحتمالات القائمة عندما يذهب التوافق على العيش في عشّ واحد أدراج الرياح.
تتفاعل جميع الأطراف وتدفع النقاش إلى منطقة السجال الحماسي والدفاع عن منظورها إلى فلسفة الزواج والطلاق، وهي حالة نقاش صحي في المجال العام المغربي بانتظار حصيلة هذه الجدلية الهيغلية. لكن وزيرا يحب مَسْرَحَة الحديث عن مدونة الأسرة ضمن استعراض خطابي ميلودرامي أمام الجمهور، لا يتبنى مبدأ أن القضية برمتها هي موضوع شورى بين المغاربة من شتى الأطياف الفكرية والمرجعيات الفلسفية قبل أن يناقشها ممثلو الأمة في البرلمان، بقدر ما يعتد من خلال نبرته وحركات جسده وتموقعه في المجالس وفي صدر المنصّات بأنه “الدوغمائي الوحيد” وأنه يجسّد الحجة الفكرية المتفرّدة الجزمية في توجيه بناء الأسرة المغربية إلى منطقة غير مسبوقة في التجريب والاختبار، وليس بالضرورة من خلال حصافة استشرافية تستبق ما قد تخفيه أو لا تسْبُرُهُ النقاشات الراهنة، ولا حوارات عام 2003 قبل اعتماد قانون الأسرة عام 2004.
تتموّجُ نبرة الوزير في أكثر من مناسبة بين مقامات الجزمية والمعصومية والدمغية أو اللادحضية، وكأن ما يتفوّه به قولٌ غيرُ قابل للدحض أو التجاوز وبقية إيحاءات اللاشكية والاعتداد بعباءة الحقيقة المطلقة. ويقول بنبرة التلقين، التي تذكرنا بأسلوب “فقيه الكُتّاب” في تحفيظ ألفية بن مالك، إنّ مضامين مراجعة مدونة الأسرة “تهدف إلى تجاوز بعض النقائص والاختلالات، التي ظهرت عند تطبيقها القضائي، ومواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي وديناميته، وما تفرضه متطلبات التنمية المستدامة، وكذا ملاءمتها مع التطورات التشريعية، بما في ذلك الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها بلادنا.”
عبارةٌ ثقيلةُ الكلمات، لكنها هلاميةُ المعاني عند التلويح بثنائية “النقائص والاختلالات“، وكيف توصّل منطقيًا وواقعيًا ومجتمعيًا إلى ضرورة مواءمتها مع “ما تفرضه متطلبات التنمية المستدامة.” هذا مثالٌ واحدٌ من عدة إسقاطاتٍ إنشائيةٍ على واقع الأسرة المغربية التي تفصلها كيلومتراتٌ لا يحسبها الخيال السريع لدى الوزير عن مستوى التنمية المستدامة المفترضة.
كلّما تابع المرء وتمعّن في بقية البنود التي شدد عليه الوزير بشأن اشتراط عدم تزوج الزوج من امرأة ثانية، والنيابة القانونية للزوجين خلال الزوج أو الانفصال، وتقليص مدة البت في قضايا الطلاق والتطليق إلى ستة أشهر كحد أقصى وغيرها، يتبين أن بيت القصيد هو عملية الطلاق وتحديد توابعه خاصة المسؤولية المادية على كاهل الرجل سواء بعد الطلاق أو عند زواج المرأة المطلقة من جديد، وليس ترميم قانون الأسرة من خلال حماية مؤسسة الزواج ومناعة الأسرة من التفكك والاضمحلال.
يحضر “قانون المطرقة” في يد الوزير على غرار قانون الأدلة عند أبراهام مازلو، فيتقوقع التفكير في الإصلاح ضمن خانة ضيقة هي الطلاق والتداعيات المالية والقانونية لما بعد بطلان الزواج. ومما يزيد في الطين أن جل ما يدافع عنه الوزير هو تشيئة الطلاق وغلبة الهاجس المالي للنيل من تركة الرجل، حيًّا وميّتًا، بين التنازل عن بيت الزوجية ونفقة الحضانة بشكل أزلي.
كلما ركز الوزير العدسة على تشيئة الطلاق ورفع منسوب العائدات المالية بالنسبة للمرأة، لا يترك الفرصة للتمعّن في أمور لا مادية حيوية أهمّ في سبل استدامة الزواج، بدلا من تسريع مسطرة الطلاق. وينبغي أن يدرك الوزير وبقية المتخندقين في دائرة مالية الطلاق والمتشبعين بمنطق الدعاوى القضائية واحكام النفقة وسجن الأزواج غير القادرين على تسديدها أن مؤسسة الأسرة أكبر من مؤسسة الزواج، وأن خيار الطلاق لا يعلو ولا ينبغي أن يتحول إلى فزّاعة مالية أو سيفٍ مسلّطٍ على عنق كل من سوّلت له نفسه بالتفكير في معصية الزواج. وقد اختزل أحد المعلقين هذه المفارقة بقوله: “من يفكر في الطلاق، من الأفضل ألا يفكر في الزواج أصلا.”
لا اتغاضى ولا أبرّر عددا لا متناهيا من المظالم والتجاوزات غير الإنسانية التي تكابدها عشرات الآلاف من النساء والأطفال في زيجات مارقة عن روح التساكن والعفة والتعامل بالتي هي أحسن. لكن ما يحز في النفس أن يصيبنا تهافت التهافت نحو أمْوَلة الزواج والطلاق، وكأنهما وجهان لشركة معرضة للإفلاس لدى الرجل وترجيح كفة التركة قبل مماته لصالح المطلّقة. ويتذكر الوزير أن المغرب شهد 24,162 حالة طلاق اتفاقي و341 حالة طلاق رجعي في المغرب خلال عام 2023.
بغض النظر عن المرجعية الحداثية أو العلمانية أو نصف الدينية أو المعاصرتية، أو كما قال “ملاءمتها مع التطورات التشريعية، بما في ذلك الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها بلادنا“، لا يبدو أن حماسة الوزير في هذه المرحلة تستند إلى تأمّل عميق ضروري في مدى دلالة هذه الأمْوَلَة للطلاق على واقع عزوف الرجال عن الزواج من ناحية، وارتفاع مستوى العنوسة إلى أكثر من ثمانية مليون فتاة في قاعة انتظار وصول الخطيب، وبنسبة 40 في المئة خلال العامين الماضيين.
هل يتمعن الوزير ومناصرو مشروعه لترميم قانون الأسرة في سؤال محوري: هل يتجه المغرب حاليا نحو فض النزاعات الأسرية وتمكين علاقات الزوجية من الصمود في وجه الهزات والتعثرات، أم نحو نشر ثقافة حسابية جديدة لعائدات الطلاق؟ وقد يأتي حينٌ في المستقبل تتحول فيه نزاعات الطلاق من محاكم الأسرة إلى المحاكم التجارية وقانون الشركات.
لا يمكن اختزال إصلاح مدونة الأسرة في قضايا الطلاق وبمقاييس مالية فقط، بل ينبغي الانفتاح على معضلة نفسية مجتمعية اقتصادية تنموية وثقافية بشكلٍ تتداخل أضلاع المشكلة في تقديرات الرجل والمرأة. ولا ينبغي اتباع نهج التطرف المضاد ضد الزوج، بعد قرون وعقود من تطرف تقليدي ضد الزوجة في ظل سوء استغلال النص الديني والأعراف الثقافية المتوارثة عبر القرون. ولا يستوي منطق الإصلاح أو التغيير بإقرار ما بدأت تحتفي به جماعات نسائية كتقوية كفة الزوجة وإضعاف وزن الزوج بفزاعة طلاق الشقاق وتبعاته المالية المستدامة.
تظل الخشية من أن تعديلات قانون الأسرة، كما يبشر بها الوزير، تحاول أن تقفز على واقع الزواج ومتطلباته كمؤسسة مجتمعية تستدعي التمحيص في معرفة بينية بين الدين والثقافة والاقتصاد والتنمية وعلم النفس وعلم الاجتماع، لتختزل بنية الأسرة في حتمية مفترضة بالطلاق وحساباته المالية. فهل ينتبه الوزير أن قانون المطرقة مضلّل ومجازف بحتمية إصلاح الإصلاح بعد عشرين عاما قادمة!