في كل مؤسسة، هناك لحظة حاسمة: إما أن تختار مواجهة واقعها بشجاعة، أو أن تغرق في وهم أن الصورة أهم من الحقيقة. لحظة تكتشف فيها أن منع النقد لا يعني إيقافه، بل يعني فقط تأجيله حتى ينفجر بأقوى مما كان متوقعًا. والسؤال هنا: أي طريق ستختار هذه المؤسسة؟
إن السمعة المؤسسية (Corporate Reputation) ليست مجرد صورة إعلامية تُرسم بالكلمات، ولا هي شعار يُرفع في المذكرات الرسمية أو في مواقع التواصل الاجتماعي، بل هي رأس مال استراتيجي يُبنى عبر الممارسات اليومية، مستوى الشفافية، الالتزام بالمبادئ، وقدرة المؤسسة على إدارة أزماتها بوعي ومسؤولية.
ولأن السمعة المؤسسية لا تنشأ من فراغ، بل هي انعكاس مباشر لما يحدث داخل المؤسسة، فمن المشروع أن نتساءل:
•هل تُحمى السمعة المؤسسية بالصمت أم بالمصارحة؟
•هل يُصان الاستقرار المؤسسي عبر إشراك جميع الفاعلين في تطوير الأداء، أم عبر إقصائهم من دوائر القرار؟
•وهل تُبنى الثقة المؤسسية من خلال الحوار المفتوح، أم من خلال إصدار مذكرات عامة توحي بالرغبة في تجنب النقاشات الحقيقية بدل مواجهتها؟
إدارة السمعة المؤسسية: بين النظرية والتطبيق
وفقًا للمدونة الدولية لإدارة السمعة المؤسسية (Global Reputation Management Standards)، فإن المؤسسات التي تتمتع بسمعة قوية ليست تلك التي تسعى إلى التحكم في الخطاب الداخلي أو إخفاء الاختلالات، بل هي تلك التي تنجح في:
•تعزيز الشفافية: لأن الغموض في اتخاذ القرارات يفتح المجال للتأويلات ويفقد المؤسسة ثقة محيطها.
•الاستماع الفعّال للشركاء الاجتماعيين: لأن المؤسسة التي تحترم نفسها، تحترم أصوات العاملين بها، وتدرك أن التفاعل معهم هو ضمان لاستقرارها.
•إدارة الأزمات بحكمة: لأن الأزمة التي تُدار بذكاء تتحول إلى فرصة للإصلاح، بينما الأزمة التي يُرد عليها بالإنكار تتحول إلى نقطة ضعف استراتيجية.
•الالتزام بالقيم المؤسسية: لأن المؤسسة التي تُعلن مبادئ ولا تلتزم بها تفقد مصداقيتها في أعين الجميع.
هنا يُطرح السؤال: هل يمكن فعليًا الحديث عن حماية السمعة المؤسسية دون الالتزام بهذه القواعد؟
السلوك المؤسسي والتوجهات الاستراتيجية: ضرورة التطابق بدل التناقض
تشير دراسة حديثة صادرة عن منظمة العمل الدولية (2023) إلى أن 74٪ من المؤسسات التي تتبنى سياسات إقصائية أو تتجنب الحوار مع الفاعلين الاجتماعيين تواجه أزمات سمعة حادة ومتكررة، مقابل 26٪ فقط من المؤسسات التي تعتمد الحوار والانفتاح، وتعتبر النقد فرصة للتطوير وليس تهديدًا.
إن أي مؤسسة تسعى للحفاظ على استدامتها وسمعتها يجب أن يكون سلوكها العملي متطابقًا مع توجهاتها الاستراتيجية. فلا يمكن لمؤسسة أن ترفع شعارات الشفافية والانفتاح بينما تتبنى ممارسات تتسم بالغموض والتجاهل. إن هذا التناقض بين ما يُعلن عنه في الخطابات الرسمية وما يُمارس فعليًا على أرض الواقع، يشكل أحد أكبر التهديدات للسمعة المؤسسية.
النقد البنّاء كمحرك أساسي لتطور المؤسسات
في هذا السياق، تشير دراسات علمية متعددة إلى أن المؤسسات التي تتبنى ثقافة النقد البنّاء تحقق أداءً أفضل. على سبيل المثال، تؤكد دراسة لشركة ماكنزي (2022) أن المؤسسات التي تشجع موظفيها على التعبير النقدي المنهجي تحقق فعالية أكبر في حل المشكلات بنسبة تصل إلى 50٪ مقارنة بالمؤسسات التي تقيّد النقد أو ترفضه.
إن اعتبار كل رأي نقدي تهديدًا للسمعة المؤسسية لا يمثل خطأً إداريًا فقط، بل يعكس انعدام الثقة في الذات، ويعطي صورة عن مؤسسة تخشى النقاشات الجوهرية بدل أن تستفيد منها.
عوامل حقيقية تؤثر على السمعة المؤسسية
تؤكد أبحاث منظمة العمل الدولية (2021) أن أبرز العوامل التي تؤدي إلى تدهور السمعة المؤسسية هي:
•ضعف التواصل الداخلي وإهمال شكاوى الموظفين.
•عدم وضوح القرارات وتضارب السياسات.
•غياب الشفافية في إدارة الموارد البشرية.
•إقصاء الشركاء الاجتماعيين من صنع القرار.
•اعتماد سياسات التخويف بدل الحوار.
نحو إدارة فعالة للسمعة المؤسسية
المؤسسة التي تدرك أهمية سمعتها المؤسسية لا تلجأ إلى إصدار بيانات عامة لا تُسمن ولا تُغني من جوع، بل تعتمد على استراتيجيات واضحة عبر:
•تعزيز الشفافية الداخلية والخارجية.
•إشراك الشركاء الاجتماعيين في القرارات الجوهرية.
•احترام مبادئ الحوكمة الجيدة بشكل عملي وليس نظري فقط.
•التعامل مع النقد كفرصة للنمو والتطوير المؤسسي.
بين التفاعل والانغلاق: أي طريق تختار المؤسسة؟
ما بين خيار الانغلاق والانفتاح، تؤكد التجارب والدراسات أن المؤسسات التي اختارت الانغلاق انتهى بها الأمر إلى فقدان ثقة العاملين والجمهور. في حين أن المؤسسات التي واجهت التحديات بروح منفتحة صنعت لنفسها مستقبلًا أكثر قوةً واستدامةً.
إن التاريخ يؤكد أن المؤسسات التي تدير سمعتها بالحوار والمصارحة تصنع مستقبلها، بينما المؤسسات التي تديرها بالتخويف، لا تكتب سوى فصول سقوطها.
* عضو المكتب الوطني للنقابة الوطنية لقطاع الصحة CGTsanté