جاء هذا المقال على إثر حديث ودّي دار بيني وبين ثلاثة من أصدقائي الأصفياء عبر الفضاء الأثيري الأزرق عن لقاءاتي مع المرحوم محمد شكري صاحب الرّواية الجريئة الذائعة الصّيت “الخبز الحافي” التي نُقلت إلى العديد من لغات الأرض، هؤلاء الأصدقاء هم الأدباء النجباء إبراهيم الخطيب، وأحمد علّوش،وإدريس عفارة المشهود لهم جميعاً بطول باعهم فى مختلف مجالات العطاء الخِصب فى ميادين تخصّصهم إبداعاً،وإشعاعاً،وإمتاعاً، بعد حديثي معهم الشيّق جاءت هذه الفذلكة الاستكناهيّة، والإجهاشات الإستبطانيّة ، والذكريات الإفصاحيّة عن لقاءٍ أخويّ جمعني بمحبّة فى زمنٍ غابر مع محمد شكري هذا الصّوت المنفرد الذي غنّى خارج سربه فى الأدب المغربي الحديث.
من طنجة العاليّة إلى مدينة الأنوار الرباط
كانت لي لقاءات بالفعل مع الأديب الراحل محمد شكري، وذلك بعد مرور سنة واحدة من عودتي من القاهرة عام 1970 ، و كان أطول لقاء بيننا فى نفس هذا العام على متن القطار الرّابط إبّانئذٍ بين مدينتيْ طنجة والرباط كنتُ عائداً من رحلة إلى إسبانيا فحططتُ الرّحال فى مدينة البوغاز ، حيث التقينا وتحدثنا خلال هذه الرحلة الطويلة التي دبّرها لنا القدَرعن العديد من الأمور التي كانت تشغل بالنا فى ذلك الأوان، والغريب أنّ معظم الحديث الذي دار بيننا كان بالأمازيغية الرّيفية، وكانت لغة الحديث فيما بيننا تختلف قليلاً .. قليلاً جدّاً ، فالتباين اللغوي بين المنطقتين اللتيْن ينتمي كلٌّ واحدٍ منّا إليها فى ريف المغرب الكبير يكاد أن يكون منعدماً ، باستثناء بعض التعابير،والمُسمّيات، والمُصطلحات القليلة جدّاً التي لا يُحسب لها أيّ حساب، فالأديب محمد شكري كان من بني شيكر، وهي منطقة غير بعيدة عن مدينة الناظور، وأنا من أجدير الذي ينتمي لقبيلة بني ورياغل الكبرىَ التي لا تبعد سوى بضع كيلومترات قليلة عن مدينة الحسيمة الفيحاء،ولقد كنت قد نشرتُ فى الزّمن الغابر شذراتٍ من الإنطباعاتٍ، والذكريات الإسترجاعية حول هذه اللقاءات المبكّرة التي جمعتني بصاحب ( أغرُومْ وَحدَسْ)…( الخبز الحافي باللغة الأمازيغية الرّيفية) أو( العِيشْ الحَافْ ) .
عندما يغدُو اليومُ برهةً
كان الصّديقان الكريمان أحمد علوش، وادريس عفارة من جهةٍ أخرى قد تفضّلا مبروريْن وممنونيْن مؤخراً بمشاركة ومتابعة وتقاسم مقالي على الفيس الذي كانت قد تكرّمت بنشره منذ بضعة سنوات جريدة ” القدس العربي” اللندنيّة عن بلديّنا..(ميسْ نطمُورْث نّغْ إخناغ إعِزّنْ) ..( ابن أرضنا العزيزة علينا) المرحوم محمّد شكرى الذي قيّض الله تعالى لي أن ألتقى به فى قطار طنجة – الرباط آنذاك أوائل السبعينيّات من القرن الفارط، وحمداً لله، ومن حُسن الحظ، وروعة الطّالع ومَبسمه أن كان القطار الذي كنّا نمتطيه بطيئاً ، أيّ كما يقول إخواننا المصريّون الأعزّاء : ( كان بيمشي على طُولْ.. بَسْ على مَهلُو) ! حيث تسنّى لنا خلال هذا اللقاء تجديد أواصرَ المودّة، وعُرىَ المحبّة بيننا…ومع ذلك فقد بدا ليّ ذلك اليوم الغابر فى طيّات الزمن وكأنه غدا برهةً عابرة من الزّمن الذي لا يني،ولا يرحم، ولا يتوقّف..وتلك المدّة الطويلة التي استغرقت خلالها الرحلة أصبحت لحظة مُختلسَة من العُمر، تبدو لي اليوم كما بَدَتْ فى الأزمنة الغابرة أيّام جاهليّة القوم أطلالُ خولة لطرَفة ابن العبد ببرقة ثمهد .. !.
وتحدّثنا طويلاً .. طويلاً والحديث مع – ابن بني شيكر محمد شكري المتمرّد والنّاقم على حزمة من التقاليد التي كانت تتراءى له بالية مُجترّة – كان حديثاً ذا شجون .. وفنون.. وجنون.. ومجون كذلك..كان لقائي مع هذا المبدع النابغة فرصة ذهبية لا تعوّض لأتعرّف عليه عن قرب ، وما زلتُ أذكر هندامَه البسيط،وشعرَ رأسه المنفوش، وشواربَه المعقوفة الكثّة التي أنهكها التبغ الأسود القاتم من صنف (بيكادُورَا ) الإسباني الذي كان يتكاثرتداوله فى مدينة طنجة الذي يوازي عندنا فى المغرب سيجارة (كازا سبُور) المنزوعة الفيلترأوالمصفاة، وهذه السّجاير بنات عمّ غير شرعيّات لصنف سجاير (غولوَاز) و(جيتانْ ) الفرنسيان ! .. شوارب طلاها النيكوتين بذلك اللون الرّمادي الداكن من فرط تعاطيه منذ شبابه المُبكّر، ونعومة أظفاره بشراهة لعادة التدخين،هذا التبغ الأسود سرعان ما هجره إلى صنف التبغ الأشقر،كما كانت المُوضة المُستحدثة والمُنتشرة بين معظم شباب ذلك الجيل الحائر والمُعنّى .
عناق لغة الضّاد بأمازيغيّة أهل الرّيف
خلال محادثاتنا التي تطرّنا فيها لعدّة مواضيع كنت أتمنّى أن يُصاب القطار بعطَبٍ أو عطَل ٍ ليتوقّف، ويتوقّف معه الزّمن .. كنتُ حديثَ العهد من العودة من القاهرة ،وكنت قد قرأتُ لشكري بعض بواكيره الإبداعية الأولي التي استقدمها إلى قاهرة المعزّ لدين الله أواخر الستينيّات من القرن المنصرم بعضُ الخلاّن الأكارم من الطلبة المغاربة الذين كانوا يتابعون دراساتهم العليا فى القاهرة كذلك المنحدرين من مدن العرائش، وأصيلا، والقصر الكبير، والقنيطرة، والرباط، والحسيمة، وتطوان، والناظورأذكرمن بين هؤلاء- على وجه الخصوص- الأصدقاء الأصفياء المرحوم أحمد الكشوري، ،والمهندس الزراعي أحمد العمارتي، وعبد الكريم بوعجاج ،والميموني،وأحمد المفتوحي، والمرحوم أحمد الزيّاني ، وعبد الواحد الخمليشي، والدكتورمصطفى قلّوش وسواهم …ولم يكن هناك بعد لا عيش حاف ،ولا خبز جاف،ولا (حاتيتا) (البغرير)، ولا الرّغايف، المسمّن (الفطير المشلتت)..! إذ لم يكن شكري قد نشر” خبزَه الحافي” بَعْد ، فهذه الرواية الناقمة نشرت عام 1972! .
كان اللقاء بيننا لطيفاً وشيّقاً خصوصاً عندما حدّثته بلغة أهل الريف حيث ،بادرته بالقول : (إخسّانغ أنسِّوَرْ شوايْ نتمازيغثْ ) ( ينبغي علينا أن نتحدّث فيما بيننا قليلاً بالرّيفية).. فأجاب على الفور : ( وااااااه…(ب هَاءٍ ممطوطة وممدودة ) شواي واها ..أنسِّيوَرْ أطّاس نتمازيغثْ )..(أجل ليس قليلاً فقط .. بل سنتحدّث كثيراً بالأمازيغية )، وتحدثنا بلغة الأجداد الأبرار الصّناديد المتوارثة أنا بلهجتي الورياغلية المعروفة ، وهو بلهجته التي كانت مزيجاً من طرائق الكلام عند إخواننا وأحبّتنا فى العشيرة، والبصيرة، والتاريخ ، والأرض، والوطن الغالي، والمحبّة التي قيّضها الله بيننا منذ أقدم العهود، لهجة الأفاضل الأشاوس فى نواحي بني توزين، وتمسمان، وبني أوليشّك،وقلعيّة ،وكبدانة ،وگزناية وسواهم..
وانتهت الرّحلة التي إستغرقت ساعاتٍ طويلةً ولا ريب، إلاّ أنّها مع ذلك مرّت مرّ البّرق كلمحٍ خاطفٍ لأننا لم نتوقف عن الحديث طوالها، وتوادعنا فى محطة أكدال بالرباط على أمل اللقاء من جديد، ولكننا لم نلتقِ، فقد ردّه القدَرُ إلى مقرّ إقامته ليواصل العيش، والإبداع فى مدينة ملتقى البحريْن وحاضرة البوغاز طنجة، ورمى بي القدر أنا الآخر خارج أرض الوطن للحصُول على ” لقمة العيش” ،وطالت إقامتي، ومسكني ، ومقطني،وسفرياتي فى مختلف بلاد الله الواسعة المترامية الأطراف بدءاً بالقاهرة ،واسبانيا، وليبيا، والمكسيك، والبيرُو ، وجزر الخالدات الكنارية الأمازيغية الأثل والأصل والمحتد ،ثم العودة إلى حاضرة أبي القاسم مَسلمة المجريطي مدريد العامرة فى مرّات عديدة.. وأخيراً فى كولومبيا ،وبنما، والإكوادُور (منتصف العالم) ، وفنيزويلا، وترينيداد وتوباغو ، وغراناد، وسان كيلتس ونييفيس،وغير قللٍ من جزر الكرايب وهلمّ جرّاً ..وطال بي التجوال، والتّرحال، والتّنقال حتى وجدتني أردّد وأقول صادحاً مع الشاعر فى كلّ حين : ( بالمغرب أهلى وبغداد الهوىَ وأنا / بالرّافديْن وبالفسطاط إخواني …. ولاَ أظنّ النّوىً ترضىَ بما صَنعتْ / حتى تُلاقيَ بي أقاصىَ تمسمَانِ ) !…ومن ثمّ جاء هذا المقال، وانطباعات أخرى عن هذا الكاتب المُعنّى كدَيْن فى عنقي نحوه،ونحو عمله الرّوائي الابداعي المميّز ” الخبز الحافي”الذي ما زال يثير زوبعة هوجاء حوله من غبارٍ، ونقعٍ، وعجَاجٍ ومن جَدل ٍ هائج ما زالت أصداؤه تُسمع حتى على أيّامنا هذه المشهودة .
من أجل لقمة خُبز
الرّواية إيّاها كانت فى البداية ستحمل عنوان :“من أجل كِسْرة عيش” أو “من أجل لقمة خبز”،وهوالعنوان الذي تحوّل فى الأخير إلى ” الخبز الحافي” هي الرواية الشّهيرة التي تضمّنت السّيرة الذاتية الحميميّة للكاتب الرّاحل الرّيفي –الطنجاوي محمّد شكري. هذا الكاتب السّليط الجريئ أماط السّتار، وأزاح الخِمار عن مختلف الطابوهات التي كانت تطبع صناعة الأدبَ فى هذا الشقّ المحافظ النائي من العالم الذي تحكمه عادات، وتسوده تقاليد وقورة متوارثة، والذي تميّزه عوائدُ وأنماطُ عيشٍ متشدّدة متواترة لا يمكن تخطّيها أو تجاوزها بأيّ حالٍ من الأحوال،وإذا كان قد صفّق له، وأطرى عليه البعضُ وعلى “جرأته الأدبية” فى البّوح والإفصاح بدون رقيب أو حسيب ، فقد عاب عليه الكثيرون ،وكالوا له بالمقابل أشدَّ الإنتقادات اللاّذعة على ما أسموه بهذا الأدب العاري من الوقار والمشحون ب “لمروق والمجُون”! .
خوان غيتيسولو والخبز الحافي
الكاتب الإسباني – الكطلاني الرّاحل المعروف خوان غويتيسولو (الذي ظلّ يعيش فى مراكش حتى وافاه الأجل المحتوم وهو اليوم دفين مدينة العرائش) كان قد نوّه بشكري وأعماله، وقال إنه كان حريصاً على تصفية الحسابات التي كانت بينه وبين الكاتب الامريكي الذي كان مقيماً هو الآخر فى طنجة بول باولز الذي كان قد وصفه شكري من قبل “بأبيه الأدبي” الثاني لدواعٍ مادية ، وقال غويتيسولو “إنّ هناك نوعاً من التظلّم فى هذا الشأن، ويبدو لي أنه من الأهميّة بمكان معرفة وجهة نظر مغربي مُعوز كان يعيش بين ثلّة من الأمريكيين الذين كانوا يقيمون فى طنجة، والذين كانوا يعتبرون هذه المدينة كفردوس أرضي، ولكنهم لم يكونوا على علم كيف كان يعيش المغاربة هناك”. وقال غويتيسولو إنّ كتاب شكري “مهمّ لا محالة”. وكان قد ذكّر الناشر” لاثارو” بمطلبه السابق وهو” أنه عند إعادة نشره لكتاب شكري “الخبز الحافي” فى اللغة الاسبانية عليه أن يضع له عنوان “الخبز” فقط ، لانّ عنوان الخبز الحافي يمجّه الذّوق الإسباني وهو لا يعني شيئاً فى لغة سيرفانتيس ، وكان قد قال له مازحاً فى هذا السبيل : ”إنّك لو إحتفظتَ بالعنوان القديم الأصلي لهذا الكتاب فتأكّد أنّك سترتكب جريمةً عظمى لا تُغتفر فى حقّ اللغة الإسبانية”!.
يقول عنه الكاتب الصّديق ، والمترجم الحاذق الأستاذ ابرهيم الخطيب :”عاش محمد شكري طفولته في بني شيكر ، قبل أن يهاجر صحبة والديْه إلى طنجة، ثم العرائش، وتطوان قبل العودة إلى مدينة طنجة ” . فعلاً عاش شكري سنواته الأولى بعد بني شيكر فى مدينة ملتقى البحرين (المحيط الهادر، والمتوسّط السّاكن) فى طنجة محاطاً بأجواء العنف،والبغاء،والتهميش، والمخدّرات ،والسّهر الطويل فى سديم الليل الطنجاوي الضبابي الحالك البهيم، وعندما بلغ العشرين من عمره إنتقل شكري للعيش فى مدينة العرائش المجاورة للدّراسة، وخلال هذه المرحلة من عمره بدأ يهتمّ بالأدب ، وفى فترة السّبعينيات عاد من جديد إلى طنجة ، حيث كان يتردّد على الحانات ، ويرتاد المواخير، ويؤمّ أوكارَ البغاء، وصناديق الليل وما أكثرها آنذاك فى مدينة البوغاز .
من بني شيكر المغمُورَة إلى طنجة المشهُورَة
ومعروف أنّ الكاتب محمد شكري الذي نعيش هذه الايام ذكرى رحيله الواحدة والعشرون كان (من مواليد 15 يوليو 1935 – والمتوفّى فى 15 نوفمبر2003) وُلد فى حظيرة أسرة فقيرة ، ببني شيكر، أو آيت شيكر وهي قرية ريفية صغيرة مغمورة قريبة من مدينة الناظور، تمتدّ على يمين الطريق السّاحلية المتوجّهة إلى مدينة الحسيمة، وقد أرغم عائلته شظف العيش، وقساوة أعوام الجوع الهجرة الى طنجة وهو لم يكن يتجاوز آنذاك الحادية عشرة من عمره ،وسرعان ما طفق يكتب تجاربه الشخصية المُعاشة ، وكانت أولى قصصه تحت عنوان ” عنف فى الشاطئ” التي نشرها فى مجلة “الآداب” اللبنانية عام 1966. وقد أفضت به إهتماماته الأدبية فيما بعد إلى التعرّف على كتّاب أجانب معروفين عالميين، كانوا يقيمون فى طنجة مثل الأمريكي” بول باولز” ، والفرنسي “جان جينيه” والأمريكي” تنيسي وليامز” وسواهم ، و قد سجّل لقاءاته بهؤلاء الكتّاب فى مذكراته (بول باولز وعزلة طنجة) أو ( عزلة بول باولز فى طنجة) ، ثم فى كتاب (جان جنيه وتنيسي وليامز فى طنجة) ، بالإضافة إلى إبداعاته الأدبية، ترجم شكري كذلك إلى اللغة العربية لبعض الشعراء الإسبان مثل أنطونيو ماشادو، وفيسينتي أليكسندري (جائزة نوبل فى الآداب عام 1977) وفيدريكو غارسيا لوركا وآخرين. وبعد نشره لروايته الذاتية الذائعة الصّيت ” الخبز الحافي” عام (1972) وترجمها الى الإنجليزية بول باولز عام (1973) طفق شكري يدقّ أبوابَ الشهرة التي سرعان ما نقلته من المحلية إلى العالمية ، وظلت هذه الرواية محظورة فى البلدان العربية ، ولم تنشر فى المغرب سوى عام 2000، له كذلك ” زمن الأخطاء”(1992) و”وجُوه”(1996) وهاتان الروايتان الأخيرتان تشكّلان إلى جانب روايته الأولى الثلاثية التي تحكي سيرته الذاتية أو قصّة حياته.
يشير الكاتب الإسباني “كارليس خيلي”: أن محمد شكرى يأ سف للسّطحية التي عالج به بعضُ الكتّاب الأجانب صورة مدينة طنجة ، والأدهى والأمرّ من ذلك الإحتقار، والكراهية ،والعنصرية ،والنظرة الدّونية التي كان ينظر بها هؤلاء الكتّاب إلى السكّان البسطاء فى هذه المدينة”. وقد علّق شكري عن ذلك بقوله : ” أيّاً كان من هؤلاء الكتّاب بعد أن يقضي بضعة أسابيع فى طنجة يمكنه أن يؤلّف كتيّباً عن هذه المدينة”! .ويرى الكاتب الإسباني من جهة أخرى : ” أنّ كابوتي، وجنسبيرك، وكيرواك ، وغوري بيدال، وتنيسي وليامز أو بول باولز وزوجته جين باولز هم بعض من هؤلاء المشاهير المرموقين الذين أعجبوا وكتبوا عن المربّع الحيوي لشكري الذي يقول:” إنّني أدافع عن الوسط الذي أنتمي إليه ،أدافع عن المهمّشين، الكادحين، وأنتقم من هذا الزّمن المذلّ والبئيس..” . هكذا كان صاحب “الخبز الحافي” يبرّر موقفه ممّا يعيشه، ويعايشه، ويشهده، ويشاهده من خزيٍ فى عصره، فى هذه السيرة الذاتية المُفعمة بالمرارة، والمُترعة بالحنظل والمضض لصراحتها المفرطة .
شكري فى خانة الكتّاب الملعونين
ويقول عنه الكاتب الإسباني “خبيير بالينسويلا ” صاحب رواية ( لا طنخيرينا) :” كان محمد شكري كاتباً كبيراً، وشخصاً رائعاً ، هذا المغربي الذي حتى سنّ العشرين ربيعاً من عمره لم يكن يكتب ولا يقرأ ، والذي إنسابت طفولته، وإنصرم شبابه فى بؤسٍ مذقع، وشظفٍ من العيش، وعنفٍ فظيع،وظروفٍ قاسيةٍ صعبة، كان كاتباً ينتسب إلى خانة هؤلاء الكتّاب الذين يُنعتون بالملعونين، لقد خلّف لنا أعمالاً إبداعية قصيرة ، ولكنّها أعمال مؤثّرة وجريئة تنبض بحبّ الإنسان والإنسانية ، ونبذ الظلم،والتظلّم، والظلام، والمظالم ،والظالمين .!
وينطبق على هذا الكاتب المعذّب المُعنّى الذي خالف كلّ الأعراف والتقاليد السّائدة ، الذي حقق بروايته “الخبز الحافي” أو ” العِيشْ الحاف” ما قاله الناقد المغاربي الكبير أبو عليّ الحسن ابن رشيق القيرواني (ولد بالمسيلة بالجزائر ونشأ بها وتعلم هناك ، ثم ارتحل إلى القيروان سنة 406 ه ومنها الى صقلية ) الذي قال فى كتابه الشهير” العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه ” عن الشاعر العربي الذائع الصّيت أبي الطيّب المتنبّي : ( ثم جاء المتنبي فملأ الدّنيا وشغلَ الناس)…).
تحيّة الودّ والإخاء للأصدقاء الأفاضل الكرام الذين أوعزُوا لي بكتابة هذا المقال، واللذين عادوا بي الزمانَ القهقرىَ، وجعلوني أعيشُ برهةَ سعادةٍ وَحُبورٍ وجذلٍ فى مرابع أرض الله الواسعة، وفى مراتع الزّمن الماضي الجميل.
***
*كاتب، وباحث،ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم- بوغوطا- كولومبيا .