الدار/ تحليل
المقترحات التي أقرتها جلسة العمل الملكية يوم أمس الاثنين في مدونة الأسرة تمثل تجسيدا صريحا وعمليا للنهج الإصلاحي المبني على التوازن التاريخي بين الهوية والانفتاح، ومراعاة التحول المجتمعي التدريجي واستباق الاحتياجات التي تفرضها التغيرات السوسيوثقافية لبلادنا. لقد كان بعض المتسرعين يعوّلون على إصلاح قد يثير الكثير من الاضطراب والفتن الاجتماعية، لكن صوت العقل والرزانة المعهود في الرؤية الملكية ظل هو الخيط الناظم لفلسفة التحديث والأصالة. وقد تجسدت هذه التعديلات المقترحة بعد إقرارها بصفة نهائية مرحلة جديدة في ترسيخ النموذج الإصلاحي المغربي الذي يبتعد باستمرار عن المزايدات السياسية والأيديولوجية والدينية، ويركز أساسا على البعد البراغماتي.
يتجلى هذا البعد البراغماتي أساسا في أن جل المقترحات التعديلية المقدّمة تهتم بالفئات الهشة على وجه التحديد. يتعلق الأمر مرة أخرى بالزوجة التي تواجه مشكلة التعدد والأطفال الذين يعانون مشكلة الطلاق والانفصال بين الوالدين، والنساء اللواتي يتعرّضن للحيف في تطبيق مسائل الإرث ولا سيّما في بعض المجتمعات والمناطق التي ما تزال تمارس عادات قبَلية تقصي المرأة. تبدو هذه المقترحات إذا ذات صبغة استعجالية وعلاجية في الوقت نفسه لانحرافات ظهرت بقوة منذ تنزيل مدونة الأسرة الحالية قبل 20 عاما. لقد كانت هذه المدة الزمنية الطويلة نسبيا كافية لتقييم الوضع الأسري والاجتماعي، وتلمّس الجوانب التي طالها الإهمال أو الحيف أو النسيان، وهذا ما تحاول المقترحات الجديدة الاستجابة إليه.
على سبيل المثال تخص أبرز التعديلات المقترحة مسألة “تعدد الزوجات”، حيث تنص مسودة التعديل على “إجبارية استطلاع رأي الزوجة أثناء توثيق عقد الزواج حول اشتراطها عدم التزوج عليها من عدمه، والتنصيص على ذلك في عقد الزواج. وفي حال اشتراط عدم التزوج عليها، فلا يحق للزوج التعدد وفاء منه بالشرط”. يضرب هذا المقترح عصفورين بحجر واحد. من جهة لا يحرّم أبدا مسألة التعدد التي وردت بنص شرعي في القرآن، وفي أحاديث نبوية شريفة، وفي الممارسة السنّية أيضا. وهذا يمثل تعبيرا عن الانسجام مع المبدأ الذي أعلنه جلالة الملك قائلا: “لا أحرم ما أحل الله، ولا أحلّ حراما”. ولكن في الوقت نفسه يسمح هذا التعديل بوضع قيود مشددة على مسألة التعدد حتّى لا تظل مجرد نزوة عابرة، يترتب عنها الكثير من الظلم والحيف تّجاه الزوجة الأولى أو أبنائها، وأحيانا حتّى في حق الزوجة الثانية. ويتأكد ذلك من خلال اشتراط مبررات موضوعية ضرورية للزواج الثاني مثل إصابة الزوجة الأولى بالعقم، أو بمرض مانع من المعاشرة الزوجية، أو حالات أخرى يقدرها القاضي وفق معايير قانونية محددة.
لا بد من الانتباه أيضا إلى أن هذه المقترحات استندت إلى مبدأ غاية في الأهمية ويتعلق بمبدأ التوافق بين الزوجين. يعطي هذا المبدأ للإصلاح الجديد للمدونة بعدا تربويا وتهذيبيا أيضا. على سبيل المثال ينص التعديل المتعلق بمسألة الحضانة على “اعتبارها حقا مشتركا بين الزوجين أثناء العلاقة الزوجية، مع إمكانية تمديد هذا الحق بعد الطلاق إذا اتفق الطرفان”. دفع الطرفين إلى إمكانية حل مشكلة حضانة الأطفال من منطلق اتفاقي، يمثل أيضا تحولا مهما في مدونة الأسرة، قد يساعد على حلحلة الكثير من الخلافات والصراعات بين الأزواج بعد الطلاق، والتي كانت تنعكس انعكاسا خطراً على أبنائهما، وتعمق نتائج التفكك الأسري.
وقد برز مبدأ الاهتمام بالفئات الهشة وحقوقها في مسألة الحضانة أيضا من خلال التنصيص على “تعزيز حق الأم المطلقة في حضانة أطفالها، حتى في حالة زواجها، وضمان الحق في سكن المحضون”، مع “تنظيم ضوابط جديدة لزيارة المحضون أو السفر به، بما يضمن مصلحة الطفل”. ومن المؤكد أن هذا الاختيار الإصلاحي لا يخلو أيضا من انعكاسات ثقافية مهمة على مستقبل الأسرة المغربية. في هذه الحالة يصبح الزواج بالنسبة إلى الكثير من الأفراد مسؤولية حقيقية وجسيمة ينبغي لهم التفكير مليا قبل خوضها أو الإقدام عليها، بما يعنيه ذلك من استعداد مادي ومعنوي وثقافي وتعليمي. لكن حماية الأطفال المترتبين عن العلاقة الزوجية مسؤولية تقع أساسا على عاتق القضاء الذي يجب أن تكون له الكلمة العليا في مسألة تحديد الحاضن وتمتيع الطرفين بحق الزيارة تحت مبدأ مصلحة الطفل أولا.
ولعلّ التعديل الأبرز الذي كان منتظرا هو المتعلق بمسألة الإرث. ومن الواضح أنه ظل أيضا محكوما بقاعدة عدم تحريم الحلال أو تحليل الحرام، إذ لم تتضمن المقترحات أيّ استجابة لطلب المساواة الكاملة في الإرث بين الجنسين. لكنها توصلت إلى حلّ مرحلي يتمثل في “اعتماد مقترح المجلس العلمي الأعلى بخصوص إرث البنات، الذي يتيح إمكانية هبة الأموال للوارثات قيد الحياة، مع اعتبار الحيازة الحكمية كافية”. ويمكن لهذا الإجراء طبعا أن يستجيب لمطالب العديد من الهيئات النسائية التي كانت تشتكي من مسألة تدخل إخوة الميت أو أبناء عائلته في التركة على الرغم من عدم إسهامهم فيها، بما يعنيه ذلك من تقليل من حصة البنات اللواتي يتركهن وراءه.
تحمل معظم هذه المقترحات إذاً طابعا إصلاحيا متناغما إلى حد كبير مع التوازن بين المرجعية الإسلامية والنوازل العصرية التي فرضها التحديث والاندماج في التحولات الكونية على مستوى القيم وحقوق الإنسان. ويُظهر ذلك أن المغرب يواصل بثبات وعزم تحديث مجتمعه لكن دون مساس بثوابته أو أصوله، أو الدخول في صراعات فكرية أو فقهية لا تجدي في الوقت الراهن أيّ شيء، لأن المطلوب في النهاية هو تحقيق مقاصد الشريعة القائمة على العدل والرحمة والانسجام مع الوفاء في الوقت نفسه بالالتزامات الدولية والكونية لمنظومتنا الحقوقية العصرية.